لطالما كتبتُ عنك لنفسي، و أخفيتُ الرسائل في صدري حتى ضاقت بي السُبل و رفعتُ يدي عن عنقي.. رفعتُ يدي عن عنقي كي لا أحبس الكلمات و الأحاسيس داخل روحي فقد تعبتُ وتعب جسدي من تآكل الحزن داخلي. محمد بشير أبو الشامات، ذلك الرجل و الأب الذي لطالما ساعدني و حماني و شد على يدي بعد الله سبحانه، بكلماته و حضوره و صمته العجيب.
هو الذي علمني ألا انحني أبداً و مهما حصل حتى لو سقط نصفي، و ألا افاوض على روحي و أن استمر نزفي و كُسر ظهري. أين أنت كي أنام قرير العين ومعاف الروحِ. كلامك كان يهز بلدان، عربٌ كانوا أو عجمِ، ليس بسرٍ ولكن بقول الحق الأزلي.. لا يهمك من كان أو من أتى، لأنك أشرف من شهاداتٍ و أوسمةٍ على الجدران تتعلقُ. اشتقتُ لنظرةٍ منك تشبع القلب وترتوي بها الروح.. سيظل شهر مايو نكستي وسيظل الخنجر المدفون في صدري إلى أن نلتقي… لم تعد الأوطان تعني شيئاً، إلا شعوباً وحدوداً بين بعضها البعض، فقد كُنتُ أنا الشعبُ و أنت الوطن. أنت الوطن الدافئ، الوطن الغالي، الوطن القوي، الوطن الجامع، و أنا يا أبي كُنت المواطن الفخور، المواطن الصالح، المواطن الأصلي… أنت البياض الأنقى و أنا الكفن، أنت البستان الأخضر و أنا أوراق الشجر، أنت البيت العريق و أنا كُرسي الخشب. رحلت باكراً وباكراً جداً، و لكني لا أحمد سوى الواحد الأحد، فلو خيرني ملك الموت، لاخترتُ أن اكون البدل. رحلت قبل أن تودعني، فلا عاد يسأل عن موعد عودتي أحد، ولا عن علاماتي في الامتحانات ولا عن شهاداتي في الجامعات و لا عن امنياتي و لا عن أحلامي أحد. كُنتُ أنت الشهادة و أنت الأمنية و أنت الحلم الذي لا ينتهي للأبد. كُنتَ البلسم للجراح من غير أن تعلم ومن غير أن تقول ومن غير أن تفعل، فوجودك وحده كان المرهم و كان المعطف و كان القلم. .لم يعد أحد يحميني من غدر الزمان، و خنجر الإنسان و قلة الحنان
عند زيارة قبرك الشريف و في كل مرة، ألقي عليك التحية العسكرية التي لطالما القيتها لك، وكيف لا و أنت الزعيم و الأب و القائد و المعلم و الحبيب، أنت الرتبة العسكرية، و الرتبة الشرفية و الرتبة العائلية. لم استطع أن أشكرك، ولن استطع أن أشكرك طوال حياتي على ما فعلت، وبعد خمس عشر عاماً على الغياب أقف كالطفل الصغير، الضائع، الحائر في بلاد الله الواسعة. ماذا اقول وماذا اكتب، فقد جف القلم و غصت الروح و بكت الصحف. أين حزيران و أين تشرين وأين وأين وأين، لم يعد للزمن طعم و لا معنى، إلا دقائق وأيام. اشتقتُ اليك يا أبي، وأنت تعلم أنك مصدر حديثي و ملهم أفكاري. اشتقتُ لذلك الصدر الحنون، و تلك اليد النظيفة، و ذلك الصوت العذب.
لم تكن شاعراً و لم تكن عازفاً و لم تكن كاتباً، و لكنك شاعري و عازفي و كاتبي الأول. أنت لاعبي الأفضل في كرة القدم، و سائقي الأفضل في سباقات السيارات، و معلمي الأفضل في الجامعات، و استاذي في علوم الفيزياء و النحو و الرياضيات.. أنت الأفضل في كل شيء فيه مهارات، و شيخي في كُل الصلوات. أبي، هل لقبرك مكان لي كي أرقد فيه بسلام؟ أبي، هل لي شرف أن تغطيني رمالك الشريفة؟ أبي، هل عندي ما يكفي من حسنات حتى اقابلك؟ أبي، هل لي ان القاك غداً؟ أبي أبي أبي.... سلامٌ عليك أبعثه منك إليك، لأني لا أملك شيئاً أغلى منك أرسله إليك.