الإثنين, 11 أغسطس, 2025 , 6:41 م
صالح موطلو شن

إرث قايغوسوز أبدال الخالد عبر بلدين:تركيا ومصر

بقلم : صالح موطلو شن –  سفير جمهورية تركيا بالقاهرة

 في أواخر القرن الرابع عشر انطلق شاب من منحدرات ألانيا المشمسة – وهي مدينة ساحلية في جنوب تركيا، في رحلة تردد صداها عبر العصور. كان اسمه علاء الدين غيبي، لكن التاريخ سيخلده لاحقًا باسم “قايغوسوز أبدال” ، الشاعر الصوفي، والدرويش؛ والولي الصالح الذي نسجت حياته بين  مرتفعات الأناضول الوعرة وشوارع القاهرة القديمة. فقصته هي قصة تمردٍ روحي، وتألقٍ شعري، وإرثٍ نسج طريقة البكتاشية في النسيج الثقافي للبلدين؛ فمن تكايا تركيا إلى تلال المقطم في مصر، يظل تأثير قايغوسوز أبدال مستمرًا، ليس فقط في الأبيات التي تركها وراءه، بل في قلوب من لا يزالون يرددون اسمه بإخلاص .

 ** ابن نبيل في ألانيا

 وُلد قايغوسوز أبدال في النصف الأخير من القرن الرابع عشر في مدينة ألانيا – التي كانت تُعرف آنذاك باسم علائية، ونشأ في وسط  مميز. فعلى الأرجح كان ابن بِك المدينة – بِك ألانيا (أميرها)، وكان والده ذي صلةٍ بسلالة قرمان أوغلو أو الأتراك السلاجقة في الأناضول، وتوحي ظروفُ نشأته المبكرة باتجاهه نحو السلطة – ربما كحاكمٍ أو جندي. ومع ذلك فإن تفاصيل نسبه تظل غامضة، مثل ضباب البحر الأبيض المتوسط الذي يُظُل سواحل ألانيا. كانت ألانيا ميناءً يختلط فيه التجار والعلماء والصوفية، وعلى الأرجح شكلت هذه التقاطعات الثقافية النابضة بالحياة فكر الشاب علاء الدين، معرضةً إياه للتيارات الروحية التي امتدت من خُراسان إلى الأناضول، من خواجه أحمد اليسوي حتى أبدال موسى و صاري صالتوك. إلا أن لقاءً واحدًا  سيضعه على أعتاب مسارٍ بعيد عن  الطموحات الدنيوية.

  الغزال والدرويش

 تمتزج قصة تحول قايغوسوز أبدال الروحي   بالأسطورة.  فقد كان علاء الدين – كأي شاب نبيل –  يصطاد بالقرب من  ناحية “إلمالي” عندما أطلق سهمه على غزال؛ فرّ منه الحيوان الجريح إلى تكية أبدال موسى-  وهو شيخ بكتاشي مرموق، فتعقب الصياد الشاب  طريدته حتى التكية؛ ولدهشته وجد علاء الدين أمامه الشيخَ أبدال موسى والسهم قد انغرس في جنبه – بشكلٍ مُعجزٍ، كان هذا تنبيهًا إلهيًا هز كبرياء الشاب وزهوه؛ ومفتونًا بجلال هذا المشهد تخلى علاء الدين عن طموحاته الدنيوية مقررًا الالتزام بالسير في الطريق الصوفي. وطوال أربعين عامًا، أقام علاء الدين في تكية أبدال موسى، منغمسًا في تعاليم الطريق البكتاشي عن الحب الإلهي والتوحيد. ومن هنا حصل على اسمه الجديد “قايغوسوز”، أي “الخالي من الهم”، إشارة إلى تحرره من الهموم الدنيوية. كانت التكية ملاذًا متواضعًا من الحجر والروح، بوتقة  تشارك  فيها  قايغوسوز مع الدراويش الطعام والصلوات والسعي نحو السمو الروحي، فتحول  قايغوسوز إلى  شاعر وصوفي يتردد صوته عبر القارات.

 الرحلة الصوفية إلى مصر

 بعد سنوات من الخدمة المخلصة، قام أبدال موسى باستدعاء قايغوسوز وقال له: “لا يمكن لأسدين أن يتشاركا عرشًا واحدًا، لذا فبإرادة الله انطلق إلى مصر وكن حارسها.” وهكذا استعد قايغوسوز للرحلة بناء على أمر أستاذه مُكلفًا بمهمة  “حارس مصر”، في ذلك الوقت، كانت تكية أبدال موسى في بيسيديا تضم أربعين درويشًا وكل منهم يرشد أربعين آخرين. وفي  صباح يوم رحيل قايغوسوز، تجمع ألف وستمائة وأربعون دراويشًا أمام التكية، في دلالة على الأهمية الروحية لهذه اللحظة. واختار أبدال موسى منهم أربعين لمرافقة قايغوسوز، بينما ودعه الباقون وصلواتهم تتبعه كنسيم رقيق. من ميناء “فينيكه” في أنطاليا، أبحر قايغوسوز ورفاقه الأربعون إلى مصر، وقطعت سفينتهم عرض البحر الأبيض المتوسط الفيروزي. لم تكن الرحلة مجرد انتقال مكاني، بل كانت أوديسة صوفية مشبعة ببركة الأمر الإلهي. وفقًا للعالم فؤاد كوبرولو، نقلاً عن مخطوطة نادرة من “مناقب قايغوسوز أبدال”، كتب أبدال موسى رسالة إذن وتفويض لقايغوسوز. ولعدم وجود مكان مناسب لحفظ الرسالة؛ فقد فتت قايغوسز الرسالة وشربها مع اللبن الرائب (العيران)، مخلدًا ذلك الإذن في قلبه. ومن تلك اللحظة تدفقت ينابيع الحكمة من قلبه، ومع أربعين درويشًا انطلق قايغوسز في مهمته المقدسة فوصل إلى القاهرة في أوائل القرن الخامس عشر، وعند وصوله أسس “تكية قصر العيني” بين عامي 1403 و1404، بالقرب من تلال المقطم. وقد عُرف قايغوسز في القاهرة باسم عبدالله المغاروي، أو “عبد الله الساكن في الغار”، وعاش حياة زاهدة، مملوءة بالتأمل والشعر. وقد صارت هذه  التكية – إلى جانب التكايا الثلاثة في حاجي بكتاش والنجف وكربلاء، واحدة من الأربع تكايا المباركة  في طريقة البكتاشية، مما يمثل دليلاً على مكانة قايغوسوز الرفيعة في أعين البكتاشية، التي تجاوزت حتى مكانة أستاذه الموقر أبدال موسى.

ويُقال إن قايغوسوز كان أول من ارتدى  التاج الأبيض  (القبعة البيضاء) المميز بأربعة أركان ترمز إلى البوابات الروحية الأربعة (الشريعة،  والطريقة، والمعرفة، والحقيقة)، وبهذا التاج اثنتى عشرة طية ترمز إلى الأئمة الاثني عشر. ويُعرف بالتاج الحيدري أو الحسيني أو القلندري، ويُنسب اختراعه إلى إبداع قايغوسوز. وفي تكايا البكتاشية يخصص أحد المقاعد الاثنى عشر في مجلس الذكر  للنقيب ممثلاً قايغوسوز نفسه، إشارة إلى حضوره الدائم؛ كما يردد بيت شعر تقليدي بمثابة “دعاء عند ارتداء هذا التاج” احتفاءً بهذا الزي الأيقوني تبركًا بقايغوسوز، لتأكيد إرثه في التقاليد الروحية والدينية في الطريقة؛ ورغم أن قايغوسوز لم يعد إلى الأناضول أبدًا، إلا أن قبره في المقطم يظل ضريحًا مباركًا بما يمثله من شهادة باقية على حضوره .

 صوت الشاعر: نسيج إلهي

 شعر يجوز أبدال هو قلب إرثه بنسيجه النابض بالفكاهة والسخرية والروحانية العميقة، وقد كتب قايغوسز الشعر بنوعيه: الوزن الهجائي (المقطعي)، والوزن العروضي (الإيقاعي)، وأنتج أعمالًا مثل “بودال نامه”، والديوان (الذي يضم أكثر من ١٣٠قصيدة)،و”مغلاطه”،و“وجودنامه”،و“دلگوشا”،و“صارينامه”، و”جولستان” الضخم غير المكتمل (٣٧٠٠ بيت)؛ أبيات شعره غالبًا ما تكون ساخرة وجريئة، كأنها ترقص.

 

اترك رد

%d