بقلم د. هشام محفوظ
ماذا كشف فوز زهران ممداني عن مرآة السياسة العربية؟ د. هشام محفوظ — 6 نوفمبر 2025 لم يكن فوز زهران ممداني في الانتخابات الأميركية مجرّد خبر سياسي عابر؛ بل كان مرآة انعكست عليها، بوضوح يكاد يفوق الوصف، طبقاتٌ من الخطاب السياسي العربي المتخم بالهويات المغلقة. وقد رأيت، من خلال ما كُتب ويُكتب حول الحدث، أن الكثيرين قرأوا الفوز قراءةً أقرب إلى الترجمة الانفعالية منه إلى القراءة التاريخية العميقة: فرأينا من اعتبره «انتصارًا للشيعة»، ومن رأى فيه «ثأرًا رمزيًا» من الغرب، ومن حاول أن يضمّه إلى رصيد «الهوية» لا إلى رصيد «الفكرة». ومن هنا كان «عودٌ على بدء». ليس عودة لتكرار ما قلته في المقال السابق، بل عودة إلى نقطة البدء الصحيحة التي يجب أن نقرأ منها أي حدث: جذوره، أفكاره، مساراته، لا واجهته الخارجية. فالسياسة، كما يُدرّسها التاريخ وتُفسّرها الفلسفة، ليست ما يظهر على الصفحة الأولى من الصحيفة، بل ما يتحرك في السطور الخفية التي صاغت تلك الصفحة . أولًا: لماذا قد يفشل بعضنا في قراءة الحدث؟ ربما لأننا نقرأ السياسة بعيونٍ خائفة من المجتمع ، ومُرتعشة أمام الهويات . نحن — في معظم المشاهد العربية — ما زلنا نرى العالم عبر ثنائية: نحن / هم، و«نحن» هنا قد لا تكون مجتمعًا حيًّا، وإنما طائفة، مذهب، قبيلة، أو ذاكرة جرح يتأبى على الاندمال أو الشفاء. وهكذا حين يخرج شخصٌ من الـ «هُم» إلى منصب في «مركز العالم»، يتسابق البعض لجرّه إلى خانة الـ«نحن» لإثبات مجدٍ غير موجود ! لكن زهران ممداني — كما قلت سابقًا — ليس نتيجة عصبية، بل نتيجة تربية فكرية جاءت من بيت يرى السياسة كسؤال ، لا كهوية . والأب — محمود ممداني — لم يكتب عن «أغلبية» أو«أقلية» لينصر مذهبًا على مذهب ، بل كتب ليقول فيما يبدو : إن الحداثة نفسها قامت على صناعة «أقليات دائمة» لتشرعن السيطرة. وبالتالي فالابن لا يصعد إلى السياسة بوصفه «ابن طائفة»، بل بوصفه ابن خطاب يعيد صياغة معنى السلطة والتمثيل . ثانيًا: ما الذي أثار الاضطراب في هذا الفوز؟ أقول بلا مواربة:ليس الدين ، وليس المذهب ، ولا حتى الخلفية اليسارية للرجل. الاضطراب الحقيقي نابع من خطابه السياسي الذي ينسف أساس الشرعية الحديثة في الغرب ؛ تلك الشرعية التي تُبنى على «الأغلبية المتخيّلة». زهران لا يقول:«الشيعة يجب أن يمثلوا أنفسهم»،ولا حتى: «المسلمون يجب أن يكونوا صوتًا سياسيًا». بل يقول: لا أغلبية سياسية بالهوية — بل دولة مواطنة تُبنى على الحقوق لا على الانتماء . وذلك خطاب يربك الداخل الأميركي نفسه قبل الخارج. ثالثًا: كيف نشرح هذا للشباب بلغة واضحة؟ أمام شباب اليوم — في الجامعات والمنتديات والملتقيات — نحتاج لخطاب بسيط، بلا تعقيد أكاديمي، ولكن دون تبسيط مُخلّ. نقول لهم: 1. السياسة ليست شكلًا ولا مظهرًا؛ السياسة مشروع. انتماء شخص لا يكفي لفهم موقفه. اسأل عن أفكاره، لا عن بطاقة تعريفه. 2. الهوية ليست برنامجًا سياسيًا. من يبني السياسة على الهوية سيعيد إنتاج القهر، لأن كل هوية ستبحث عن «آخر» لتتغلب عليه. 3. التحرر يبدأ من نقد الذات قبل نقد العالم . حين نحتفي بفوز شخص لأنه يشبهنا، لا لأنه يحمل مشروعًا عادلًا — نعيد إنتاج سلاسلنا القديمة. 4. العالم يكتب ملامح دولة جديدة لما بعد الدولة-الأمة. فإمّا أن نكون جزءًا من كتابتها، أو نستمر في قراءة هوامش التاريخ. رابعًا: ماذا نفهم من اللحظة؟ أن العالم يتحرك نحو صيغ جديدة للعيش السياسي… والسؤال ليس: هل سنكون «أغلبية»؟ السؤال بصورة أخرى: هل سنكون مواطنين؟ هل نستطيع تخيّل وطن لا يحتاج إلى «عدو» ليشعر بوجوده؟ هل نستطيع إعادة تعريف الانتماء بوصفه مسؤولية، لا عصبية؟ هذه أسئلة ليست رفاهية فكرية — بل تحديد لمسار الدولة خلال العقود القادمة. السيدات و السادة : إن التاريخ لا يكتب دفعة واحدة. التاريخ يكتب حين نفهم، لا حين نصفّق. وزهران ممداني ليس بشارةً ولا تهديدًا. هو علامة… علامة على أن هذا العالم يتغيّر؛ وأن من لا يقرأ هذا التغيّر قراءة جذرية، هادئة، واثقة — لن يجد لنفسه مكانًا في الصفحات القادمة من هذا العالم. ما أعظم أن نكرر بلا ملل أو كلل كل عود على بدء… فكل عود على بدء هو قراءة تبدأ من الجذور وليس من اليافطات المعلقة على الواجهات
بوابة الوطن المصرى أجرأ موقع عربى

