لم يكن العرض العسكري الصيني الأخير مجرد مناسبة وطنية، ولا مجرد استعراض للقوة العسكرية الحديثة أمام عدسات الإعلام. بل بدا وكأنه خطاب موجَّه إلى العالم بأسره، رسالة مشحونة بالرمزية والدلالات: “الصين لم تعد مجرد ورشة إنتاج عملاقة أو قوة اقتصادية صاعدة، بل صارت أيضًا قوة عسكرية قادرة على ردع الخصوم ومنافسة الكبار”.
هذا العرض، الذي كشف عن أحدث ما تملكه بكين من صواريخ عابرة للقارات وطائرات مقاتلة وأنظمة دفاعية متطورة، جاء متزامنًا مع مشهد آخر لا يقل أهمية: اجتماع ثلاثي جمع الرئيس الصيني بنظيره الروسي والكوري الشمالي. صورة واحدة جمعت هؤلاء القادة الثلاثة كانت كفيلة بأن تُعيد إلى الأذهان مشاهد الحرب الباردة، حينما انقسم العالم إلى كتلتين متقابلتين، شرقية وغربية.
*الغرب يقرأ الرسالة بقلق/
في واشنطن وعواصم أوروبا، لم تمر هذه المشاهد مرور الكرام. فالتحالف الثلاثي بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية يثير في الغرب مخاوف استراتيجية عميقة. فهو يعلن بشكل غير مباشر أن هناك جبهة جديدة تتشكل لمواجهة النفوذ الأمريكي، وأن العالم لم يعد محكومًا بقطب واحد يفرض إيقاعه على الجميع.

رد الغرب بدا سريعًا ومتدرجًا:
تعزيز الحضور العسكري الأمريكي في المحيط الهادئ، خصوصًا قرب تايوان وبحر الصين الجنوبي.
دعم متزايد لليابان وكوريا الجنوبية، باعتبارهما خط الدفاع الأول أمام نفوذ الصين وكوريا الشمالية.
إعادة تنشيط حلف الناتو وتوسيع مهامه لتشمل ليس فقط أوروبا الشرقية، بل أيضًا مراقبة التطورات في آسيا.
وبينما تستنزف روسيا في حرب أوكرانيا، فإن بكين ترفع من سقف طموحاتها لتصبح لاعبًا محوريًا في التوازن الدولي، مدعومة بقوتها الاقتصادية الهائلة.
العرب بين الشرق والغرب… فرص ومخاطر/
أما في العالم العربي، فإن المشهد يحمل وجهين متناقضين:
• الوجه الأول: فرص واعدة.
• الصين تعرض استثمارات ضخمة عبر مبادرة “الحزام والطريق”، التي تجعل من موانئ المنطقة عقدة لوجستية تربط آسيا بأفريقيا وأوروبا.
• روسيا تبحث عن أسواق جديدة للطاقة والسلاح، وتجد في بعض الدول العربية شريكًا مقبولًا.
• الغرب في المقابل، يدرك أهمية العرب في تأمين الطاقة والطرق التجارية، فيسعى لتثبيت حضوره وتعزيز شراكاته.
• الوجه الثاني: مخاطر وضغوط.
• الولايات المتحدة وأوروبا لن تتسامحا مع أي ميل عربي صريح نحو المعسكر الشرقي، خصوصًا في صفقات السلاح أو التحالفات الاستراتيجية.
• أي خطأ في موازنة العلاقات قد يجعل بعض الدول عرضة لعقوبات اقتصادية أو سياسية,لذلك، فإن الخيار الأكثر عقلانية أمام الدول العربية هو اتباع سياسة الحياد الإيجابي أو “اللعب على الحبال”، بحيث تستفيد من الطرفين دون أن تخسر أيًا منهما.
*البعد الاقتصادي… الورقة الرابحة/
في قلب هذه التحولات، يظل الاقتصاد هو المحرك الأساسي. وهنا تبرز مكانة العرب كـ”ورقة رابحة”:
• في مجال الطاقة: أي توتر بين الشرق والغرب يرفع أسعار النفط والغاز، وهو ما يصب مباشرة في صالح دول الخليج التي تمتلك احتياطيات ضخمة وقدرة على التأثير في السوق العالمية. أوروبا التي فقدت النفط والغاز الروسي تتجه أكثر نحو الخليج كمصدر بديل.
• في مجال الاستثمارات: التنافس الصيني–الغربي على المنطقة يفتح الباب أمام العرب لاختيار الأفضل. الصين تقدم مشاريع بنية تحتية وموانئ وطرق سريعة، بينما الغرب يقدم استثمارات في التكنولوجيا المتقدمة والقطاعات المالية.
• في مجال الأمن الغذائي والتكنولوجيا: العرب بإمكانهم استيراد القمح والسلاح بأسعار مناسبة من روسيا والصين، مع الحفاظ على علاقاتهم بالغرب للحصول على التكنولوجيا الطبية والعسكرية المتقدمة.
*المستقبل بين الاحتمالات/
التساؤل الأهم اليوم هو: إلى أين يقودنا هذا المشهد خلال السنوات المقبلة؟
• على المدى القصير (خمس سنوات): من المرجح أن نشهد سباق تسلح وتصعيدًا في آسيا وأوروبا، مع استمرار حرب أوكرانيا واشتداد التوتر حول تايوان. في هذا السياق، سيزداد الطلب على الطاقة العربية، ما يعزز مكانة الخليج اقتصاديًا وسياسيًا.
• على المدى الطويل (عشر سنوات): يقف العالم أمام خيارين متناقضين. إما أن يترسخ نظام عالمي متعدد الأقطاب، تلعب فيه الدول العربية دورًا محوريًا بوصفها جسرًا بين الشرق والغرب. أو أن ينزلق العالم إلى مواجهة عسكرية أكبر، تكون لها انعكاسات خطيرة على المنطقة، سواء من حيث الأمن أو الاقتصاد.
الخاتمة/
العرض العسكري الصيني والاجتماع الثلاثي مع روسيا وكوريا الشمالية ليسا مجرد مناسبتين منفصلتين، بل هما إشارتان واضحتان إلى أن العالم يدخل مرحلة جديدة. مرحلة لا مكان فيها للهيمنة المطلقة لقطب واحد، بل لتوازنات دقيقة ومعقدة.
وفي خضم هذه التحولات، يجد العرب أنفسهم أمام اختبار استراتيجي بالغ الحساسية:
• هل يكتفون بدور المتفرج الذي ينتظر نتائج الصراع بين الكبار؟
• أم يحسنون استغلال اللحظة ليصبحوا لاعبين محوريين في معادلة القرن الجديد، يجمعون بين الشرق والغرب ويحولون التنافس الدولي إلى فرصة للتنمية والنهضة؟
*الجواب عن هذا السؤال سيحدد موقع العرب في خريطة العالم لعقود قادمة.
