الجمعة, 22 نوفمبر, 2024 , 7:36 ص

د. حسن صابر يكتب عن أسرار لوحة “ العشاء الأخير” للسيد المسيح 

received_10207785187691622

لوحة مليئة بالغموض والأسرار، أُثير حولها الكثير من الجدل والعديد من التساؤلات ، حيث تحتوي على عددٍ من العناصر التي لا تنتمي للمفاهيم المسيحية التقليدية التي رسمت اللوحة في الأساس من أجل التعبير عنها .

تُعدّ هذه اللوحة من أهم أعمال الفنان الإيطالي ليوناردو دافينشي ، الذي قام برسمها عام 1498 ، وبذل فيها جهداً كبيراًً حتى تخرج إلينا بهذه الصورة ، وهي عبارة عن لوحة زيتية جدارية يبلغ حجمها 460 × 880 سم على امتداد جدار حجرة الطعام داخل دير القديسة “ ماريا ديليه جراتسيه ” في ميلانو بإيطاليا .

ويُعدّ الفنان ليوناردو دافينشي (1452 – 1519) من أشهر فناني عصر النهضة ، وقد عرف كرسّام ونحّات ومعماري ، وكان لفنه وأعماله أكبر الأثر على مدارس الفن بإيطاليا في ذلك العصر ، وامتدّ بعد وفاته لأكثر من قرن .

لوحة “ العشاء الأخير” تُصوّر المسيح جالسا على المائدة مع 12 من حوارييه الذين يظهرون بهيئة بشرية بسيطة ، فهم يتصرّفون وينفعلون مثل الناس العاديين .

في الليلة التي سبقت خيانة المسيح من قبل أحد أتباعه ، قام بجمعهم للطعام وأخبرهم بما سيحدث ، واللوحة تحكي عن هذه اللحظات القليلة بعد أن ألقى المسيح على الحواريين مفاجأته ، بأن أحدهم سيخونه قبيل شروق الشمس ، واللوحة تكشف بوضوح عن ردود فعل الحواريين التي كانت مزيجا من الرعب والصدمة والغضب .

وإلى جانب المسيح نفسه ؛ فإن الشخصية المحورية في اللوحة هي شخصية يهوذا المتآمر الذي كان موقعه الخامس من اليسار ، وقد تعمّد دافينشي رسم وجهه في الظل ، بينما ظهر خلف يهوذا مباشرة بطرس بلحية بيضاء ووجه غاضب ، متحدّثا إلى يوحنا المعمدان الذي يظهر بملامح أنثوية في نفس الوقت الذي يميل برأسه ليستمع إلى بطرس .

يُقال إن دافينشي نجح كثيرا في تصوير الانفعالات على وجوه الشخصيات بمنتهى الدقة ؛ وذلك بفضل الوقت الذي قضاه في دراسة التشريح ، ويعتبر هذا أكثر ما يميّز لوحة “ العشاء الأخير” عن عشرات اللوحات الأخرى التي تناولت نفس القصة .

قام دافينشي بالتلوين المباشر بالزيت على الحائط لكي يتمكّن من الرسم وتنويع الألوان بحُرية أكبر ، وعلى عكس ما اعتقد الكثيرون ، فإن دافينشي لم يستعمل تقنية الفريسكو، وقد تسبّب ذلك في سرعة تلف اللوحة ودمارها ، واحتياجها إلى عمليات ترميم متعددة ، وحدث أول عملية ترميم لها بعد 20 عاما فقط من إنهائها .

وقد تم ترميم اللوحة عدة مرات، وخلال عملية ترميم اللوحة في عام 1726 حاول الفنانون محاولات عدة لإعادتها إلى وضعها الأصلي إلا أن جميعها باءت بالفشل ، وفي عام 1977 أجروا عدة محاولات أخرى باستخدام آخر ما توصّل إليه العلم آنذاك لإيقاف دمار وتدهور اللوحة ، وقد تمّ استعادة معظم تفاصيل اللوحة بنجاح في ذلك الوقت ؛ بالرغم من أن سطحها الخارجي كان قد تلف تماما ولم يبقَ له أثر .

كان دافينشي قد رسم تلك اللوحة بناءاً على طلب دوق ميلانو الذي كان يريد منه تصوير تلك الواقعة التاريخية المهمة ، وعمل دافينشي فيها ببطء شديد حيث استغرق في رسمها حوالي 18 سنة .

وقد أثارت هذه اللوحة الكثير من التساؤلات حول شخصية ليوناردو دافينشي نفسه ، وشخصية يوحنا المعمدان الذي كان موقعه إلى جانب المسيح في اللوحة ، واختلفت مع ذلك رواية “ شفرة دافينشي ” فقدّمته الرواية على أنه مريم المجدلية .

اتجه معظم الفنانين المعاصرين لدافينشي – بإيحاء من روايات التقليد الكنسي – إلى رسم يوحنا في لوحاتهم على أنه شاب يافع جداً لم تنبت لحيته بعد ، وأنه ذو ملامح أنثوية ، وقد اعتاد فنانو عصر النهضة على رسم الشبان في ذلك الوقت بهذا الشكل ، وكانت هناك بعض اللوحات لهؤلاء الرسامين تُظهر الرسل الآخرين أيضا بنفس المظهر الأنثوي .

يعتقد البعض بأن هذه اللوحة ضمن العديد من أعمال دافينشي تحتوي على إشارات خاصة إلى عقيدة سرية مخالفة للعقيدة المسيحية الكاثوليكية التي كانت ذات سلطة مطلقة في ذلك العصر .

وتعتبر هذه اللوحة تحفة فنية بارزة في عالم الفن ، وتُعدّ مفتاحا لانتشار هذا النوع من الفن بين جيل الفنانين المعاصرين لدافينشي ، ويشير النقاد إلى أن هناك ملاحظة مهمة تتعلّق بالمنظور الفني الذي اتّبعه دافينشي في رسم عناصر اللوحة ؛ فكل عنصر فيها يوجّه اهتمام الناظر إليها مباشرة إلى منتصفها ، أي إلى رأس السيد المسيح نفسه ، ويُقال إن “ العشاء الأخير ” هي أعظم مثال تم إبداعه عن منظر النقطة الواحدة .
كذلك يقال إن لوحة “ العشاء الأخير” تحوي سر نهاية العالم ففي شكل النافذة نصف القمرية في أعلى اللوحة -التي تمثّل السيد المسيح مع حوارييه – أحجية حسابية وفلكية ؛ فسّرها البعض على أنها تمثّل ما اعتبره دافينشي تاريخ نهاية العالم ، عن طريق طوفان سيجتاح الأرض ، ويبدأ يوم 21 مارس وينتهي في 1 نوفمبر من العام 4006 ، لتبدأ حين ذلك دورة جديدة من حياة البشرية .

اترك رد

%d