أصبح شهر رمضان فرصة لتعزيز التسامح والمحبة في أرض الديانات السماوية الثلاث، حيث تكثر في شهر الصوم المبادرات المؤكدة على الأخوة التي تجمع بين أتباع تلك الديانات، مثل مبادرة ابن عكا المسحراتي ميشيل.
يكسر ميشيل أيوب، الشاب المسيحي، صمت مدينة عكا في ليالي شهر رمضان بصوته الجهوري ليوقظ جيرانه وأهل مدينته من المسلمين ليتناولوا وجبة السحور. تقليد يواظب ذو الأربعين عاماً على القيام به للسنة الثالثة عشر على التوالي. مرتدياً الزي العربي التقليدي، شروال "بنطال" ومتحزماً بالشملة ومعتمراً العمامة ومتوشحاً بالكوفية الفلسطينية، يجوب ميشيل شوارع وأزقة عكا القديمة بخطىً بطيئة حاملاً الطبل مردداً الابتهالات الدينية والأغاني الرمضانية، لتنتهي جولته التي تستغرق ساعتين مع آذان الفجر وخروج الناس للصلاة في المساجد.
قصة ابن قرية المكر- شرقي عكا- حيث يتجاور المسيحيون والمسلمون بدأت منذ الصغر، عندما كان يصحو فجراً على صوت المسحراتي، هذه المهنة التي اندثرت مع الوقت، فأراد أن يحييها ميشيل بصوته العذب، وهو يقوم بهذه المهمة كهدية لأهله وناسه، على حد تعبيره. وعن الأغاني التي يرددها، يشير ميشيل إلى أن جزءً منها ذو أصول مصرية وعراقية وسورية، في حين حرص على تطوير بعض المقاطع الفلسطينية الخاصة به، ويضيف: "مخطئ من يظن أن مهنة المسحراتي سهلة ولا تحتاج إلى المهارات، فهي مهنة صعبة ويلزمها صوت قوي، كما تحتاج للجرأة والقدرة على الاستمرار".
وفي معرض حديثه لـ DW عربية عن الرسالة التي يهدف شاب مسيحي مثله أن يوصلها من خلال هذه المهمة، يقول المسحراتي ميشيل: "عملي هذا واجب علي، يسوع المسيح دعا للمحبة والسلام. رمضان شهر الرحمة والمغفرة ، شهر المحبة التي يجب أن تسود بين الجميع. لن أتردد في أن أكون سبباً في سعادة أحدهم".
خرج ميشيل أيوب بمبادرته من حارات عكا القديمة، واليوم يتنقل ما بين أزقة قريته المكر وحارات المدينة الكبيرة "عكا"، وأحيانا يخرج ليقدم "هديته" لمدن أخرى كما فعل في القدس قبل عامين، وقد أصبح مثالاً يحتذى لشباب مسيحيين يمشون على خطى المسحراتي ميشيل من خلال مبادرات ذات علاقة بشهر الصوم.
ماء وتمر
في مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، ظهرت قبل أربع سنوات مجموعة "جولة نابلسية" التطوعية، أعضاؤها سبعة شبان، ستة مسلمون سابعهم ومؤسس المجموعة خليل كوع شاب مسيحي، تعاونوا سوياً على تزيين شوارع وأزقة المدينة وتجهيزها لاستقبال شهر رمضان. وتطورت الفكرة إلى توزيع المياه والتمر على الصائمين المتأخرين بالعودة إلى منازلهم عند آذان المغرب. ويقول خليل لـ DWعربية: "مبادرتنا عفوية وجميلة وهادفة في ظل الحروب الطائفية والمذهبية في الدول المحيطة. نريد أن نوصل رسالة محبة وسلام للعالم بالرغم من معاناتنا، المسلمون والمسيحيون هنا أخوة وأردنا أن نعيد البهجة التي فقدناها للشهر الفضيل".
توسعت مبادرات توزيع المياه والتمر بجهود الشبان المسيحيين وأصبح لها نسخ في عدد من المدن الفلسطينية، كما سار رجال الدين على نهج هؤلاء الشبان. ففي مدينة نابلس حيث يتعايش أبناء الديانات السماوية الثلاث، مسلمون ومسيحيون ويهود، وقف رجال دين من الديانات الثلاث على احد مفارق المدينة ليوزعوا المياه والتمر على الصائمين المتأخرين، كما قام الأب ماريو حدشيتي، راعي كنيسة الروم الكاثوليك بالمثل في مدينة أريحا.
الأب إبراهيم نيروز، راعي الكنيسة الأسقفية في نابلس كان أحد رجال الدين المشاركين في توزيع المياه والتمر في مدينة نابلس، وهو الذي أعلن لاحقا وعبر صفحته على موقع التواصل الإجتماعي "فيسبوك" أنه قرر صيام يوم السابع والعشرين من شهر رمضان في كل عام، خطوة لاقت ترحيباً وتشجيعاً من الكثيرين مسلمين ومسيحيين.
وفي حديثه لـ DWعربية، أكد الأب نيروز نيته توسيع المبادرة، محاولا تعميمها بين أبناء الطائفة المسيحية، في رسالة منه لأصحاب الفكر الإقصائي الذين يحاولون تشويه العلاقات المسيحية- الإسلامية، منوهاً إلى ان أي خلل في البنية الإجتماعية الفلسطينية سيكون ضد مسيرة نضالهم. هذا ولا تقتصر مبادرات الأب نيروز على هاتين المبادرتين، حيث نظم قبل هذه المبادرة موائد إفطار جماعية وغيرها من النشاطات الإسلامية- المسيحية المشتركة.
ترحيب وتشجيع
لا يقبل ميشيل المسحراتي تلقي أي مقابل مادي على عمله، لكنه يقوم بتلبية دعوات الإفطار التي يدعوه إليها جيرانه وأصحابه من المسلمين، ومن بينهم الحاج رشيد عابدي، الذي لم يخف إستغرابه في البداية من خطوة الشاب المسيحي، لأن هذه المهنة قد تلاشت وحتى المسلمين لم يعودوا يولونها الإهتمام اللازم، ويعلق قائلاً: "ميشيل شهم وأصيل، هو مفخرة لعكا وأهلها، التفاعل الإيجابي للناس معه جميل، هو سبب الألفة والمحبة التي نحتاجها".
أما يارا يعيش، وهي شابة فلسطينية من القدس، فترى أن هذه المبادرات ليست غريبة على المجتمع الفلسطيني، وهي جزء من التراث الجمعي الذي يحاول البعض طمسه، وتقول لـ DW عربية "الصوم لله والله محبة وتعاطف وتكافل، وأي شيء خارج هذا الإطار ما هو إلا نشاز إجتماعي".
ويتفق الأب إبراهيم نيروز مع الرأي السابق مؤكداً على إنسجام المجتمع الفلسطيني مع ذاته عبر التاريخ، فهو مجتمع متقبل للآخر ومتعاون. وعليه فإن "التيارات الإقصائية التي بدأت بالظهور مؤخراً ما هي إلا زوبعة في فنجان، وعابرة لن تجد من يصغ لها". ويشيد الأب نيروز بهذه المبادرات التي لم تكن مدروسة بل عفوية وصادقة ونابعة من القلب، فهو وغيره من المبادرين لم يجلسوا ليناقشوا الأمر، هم إتخذوا القرار وخرجوا إلى الشوارع لينفذوها.
في خطوته نحو صوم أحد أيام شهر رمضان، استشار الأب نيروز أصدقاءه من الشيوخ المسلمين بشأن يوم يختاره للصيام، فأشار عليه الشيخ والداعية زهير الدبعي، بصوم يوم السابع والعشرين كون ليلة القدر هي أكثر الليالي مباركة عند الله. ويقول الشيخ الدبعي: " ما يقوم به إخوتنا المسيحيون ليس مبادرات، هو تأصيل للعلاقات التي سادت بيننا عبر التاريخ. مسلمون ومسيحيون ويهود خضنا معاً غمار الكثير من المراحل والمنعطفات، نحن نتعامل مع إنسان وليس فقط ديانة، نحن فروع لشجرة زرعها الله لتعم المحبة والألفة والعطف بين الناس". ويضيف: "سنكون شوكة في حلق من يحاول توظيف الدين لنشر الفتنة، جلسنا معاً وسنجلس على مائدة الإفطار. فمشكلتنا ليست مع الأديان وإنما مع القراءات المنحرفة، حالتنا هذه لا تنحصر بشهر رمضان، وعلينا أن ندافع عن العقلانية والعيش المشترك".