الأحد, 19 أكتوبر, 2025 , 1:27 م
د. هشام محفوظ

الدراويش والكُتّاب… أحوال الروح في حضرة الكلمة

 

بقلم : د. هشام محفوظ

 طالعت باهتمام شديد ما كُتب مؤخرا على نوافذ التواصل الاجتماعي حول الدراويش وأحوالهم أثناء الاحتفال – هذا العام – بمولد سيدي أحمد البدوي . ولأن الكلام رزق ، الإبداع رزق من بديع السماوات والأرض ، يدركه من يتعاملون مع الكتابة بجدية تُقدر الوجد و تجليات الثقافة ممتزجة بالفكر والوجدان – ذهبت إلى أحوال الروح في حضرة الكلمة في زاويةٍ من زوايا الوجود، حيث يجلس الدرويش والأديب على مقعدين متقابلين لا يفصل بينهما سوى الوجدان. كلاهما يسافر في طريقٍ لا يُقاس بالخطوات، بل بالنبضات. الدرويش يحمل سبحة، والأديب يحمل قلما، وكلاهما يذكر الله على طريقته؛ ذاك باللفظ، وهذا بالكتابة. كأنّ الكلمة عند الأديب هي نفسها الذكر عند الصوفي؛ طقسٌ للانعتاق من ثقل العالم، ووسيلة لالتقاط المعنى الهارب بين سطور الحياة. صلاح عبد الصبور، في لحظات وجده الشعري، كان درويشًا حقيقيًا؛ يرى في الشعر طريقًا إلى الله، لا إلى المجد. قال لي د.حسن فتح الباب إن صلاح عبد الصبور كتب ذات مرةً : “أنا إنسانٌ يبحث عن معنى لوجوده في الكلمة، كما يبحث المتصوف عن الله في الذكر.” تلك العبارة كتبتها أثناء لقاء لي مع الشاعر الدكتور حسن فتح الباب – رحمه الله- وكنا نتحاور بشأن ديوانه” مدينة الدخان والدمى” . لم يكن صلاح وحده كذلك؛ فـ نجيب محفوظ هو درويش القاهرة العتيقة، يجوب حاراتها كما يجوب الدراويش الموالد. كل زقاق عنده زاوية، وكل حارة مقام وليٍّ منسيّ. حين كتب أولاد حارتنا، كان كمن يكتب “المولد الكبير للحياة”، حيث يتقاطع النور والظلمة، والعقل والإيمان، والشكّ واليقين، في رحلة أشبه بـ“سلوك” صوفيٍّ من باب الحيرة إلى مقام الكشف. أما المدهش يحيى حقي المندهش بصفاء عطر الأحباب ، فقد كان درويشًا آخر؛ درويش الحارة المصرية، الذي شمّ في الناس عبق البسطاء والأنقياء، فكتب قنديل أم هاشم كأنه يكتب سيرة وليٍّ من أولياء النور الشعبي. ذلك القنديل، في ظاهره زيتٌ يضيء العيون، وفي باطنه سرٌّ يضيء البصيرة. لقد أدرك حقي أن الحقيقة لا تُرى بالعين، بل تُذَاق بالقلب، تمامًا كما يقول أهل الطريق: “من ذاق عرف، ومن عرف اغترف.” ثم يأتي عمنا خيري شلبي، الذي جعل من الدرويش بطلًا للحياة الشعبية، ومن المجاذيب حكماءً يمشون بين الناس بقلوب تلمع كالنجوم. في رواياته، لا فرق بين الزاوية والمقهى، ولا بين الذكر والحكاية. خيري شلبي آمن أن القصّ نفسه ذكر، وأن الحكي ضرب من الحضرة؛ حيث يدور اللسان حول الحقيقة كما يدور الدراويش حول مركز النور. إنّ الدرويش والأديب وجهان لعملة واحدة؛ كلاهما يعيش حالة من الوجد المعرفي والروحي . الدرويش يخلع جسده في حضرة الذكر، والأديب يخلع ذاته في حضرة الإبداع بصحبة صفاء حضور أنوار بديع السماوات والأرض الذي علم بالقلم . الأول يقول “هو”، والثاني يقول “أنا”، وكلا النداءين في جوهرهما بحث عن الواحد. ما أجمل أن نتأملهم معًا: الدرويش حين يدور في حلقته لا يختلف عن الشاعر حين يطوف حول قصيدته، كلاهما يدور حول المعنى، لا حول الشكل. وحين يصمت الدراويش بعد الذكر، يكون الصمت عندهم كلامًا، كما يكون الصمت عند الأديب بعد الكتابة اكتمالًا للتجلي. إنّهم أبناء الوجد والمعنى، لا فرق بين من يكتب بالحبر ومن يكتب بالدمع. الدراويش حين يلوّحون بأذرعهم في حضرات المحبة، يشبهون الأدباء حين يلوّحون بالكلمات في وجه الظلم والعدم. كلاهما يخاصم الجفاف، ويزرع الندى في صحراء الوجود. وإذا كانت الموالد زوايا للروح، فإنّ الكتب موالد للعقل. فكما يرقص الدراويش طلبًا للوصال، يكتب الأدباء شوقًا للمعنى. كلاهما في رحلته نحو الله، نحو الجمال، نحو النور الذي يسكب المعنى في الوجدان. وفي النهاية، يبقى الدرويش والأديب إخوةً في السرّ؛ كلاهما يعرف أن الطريق إلى الحقيقة لا يُقطع بالأقدام، بل يُسار فيه بالحب. فالحب هو المحرّك، والصدق هو الذكر، والكتابة هي الحضرة. وفي حضرة الجمال، يسقط كل فاصلٍ بين الدراويش وأهل الكلمة… فكلاهما أهل الله بطريقته.

اترك رد

%d