الجمعة, 3 أكتوبر, 2025 , 4:22 م
د. وفاء الجندي

عبقرية السياسة المصرية في ملف النيل

بقلم الكاتبة /وفاء الجندي

حين نتأمل مسار أزمة سد النهضة الإثيوبي أو الفيضانات التي أغرقت السودان في الأيام الاخيرة نجد أن مصر لم تُفاجأ يوماً بما يجري حولها فالتعامل مع النيل بالنسبة لها ليس رد فعل مؤقتاً بل نهج ممتد منذ آلاف السنين تراكمت فيه الخبرة العملية والعلمية حتى بات أشبه بخبرة “جينية” في وجدان الدولة المصرية وشعبها هذه الخبرة المتوارثة تجلّت في قدرة القيادة السياسية على الاستقراء المبكر للأزمات المائية والتجهيز لها بحلول بديلة قبل وقوعها بعيداً عن منطق المواجهة العسكرية أو الصدام السياسي.
لقد أدركت مصر منذ عقود أن إدارة النهر ليست مجرد قضية موارد طبيعية بل هي قضية وجود ولذا شرعت في بناء منظومة متكاملة للتعامل مع كل الاحتمالات فمن شق الترع وتبطين القنوات إلى إطلاق مشروعات كبرى مثل مضيق توشكا وترعة السلام وتوسيع الفروع المائية، كانت مصر تُهيئ أرضها ومجتمعها لمواجهة سيناريوهات الفيضانات أو الجفاف على السواء هذه المشروعات لم تكن مجرد أعمال هندسية بل كانت رسائل صامتة تعكس وعياً سياسياً عميقاً وهو :
أن مصر لا تنتظر الأزمة كي تتحرك وإنما تتحرك قبل أن تقع.
وإذا كان البعض يرى في سد النهضة تهديداً مباشراً فإن مصر تعاملت معه من زاوية مختلفة زاوية إدارة الأزمة لا تفجيرها فقد اختارت المسار الدبلوماسي وفضّلت لغة الحوار على لغة السلاح، وإضلعت بدور إقليمي يعكس مسؤوليتها كدولة مصب تاريخية وكقائدة للمصالح الإفريقية ولم يكن ذلك ضعفاً أو تردداً بل تعبيراً عن ثقة في الذات وقدرة على تحويل الأزمات إلى فرص لإبراز مكانة الدولة وحكمتها.
إن ما يميز مصر في هذا الملف أنها وضعت أمامها قاعدة واضحة:
“الأمن المائي يُصان بالعلم والتخطيط كما يُصان بالسياسة والدبلوماسية” ولهذا رأينا جهوداً موازية على الصعيد الداخلي، شملت ترشيد استهلاك المياه، وتطوير أنظمة الري الحديثة والاستثمار في تحلية المياه والطاقة المتجددة، بما يقلل من الضغط على النيل ويمنح الدولة هامش أمان أكبر وبهذا النهج المزدوج – داخلي وخارجي – أثبتت مصر أنها تتعامل مع ملف النيل بعقل بارد وحسابات دقيقة لا بانفعال لحظي أو رد فعل متسرع.
وفي ظل التغيرات المناخية والاضطرابات الإقليمية تظل هذه القدرة على الاستباق والتجهيز المبكر أهم ما يميز الدور المصري فمصر لم تنتظر لحظة الفيضان أو بدء الملء كي تتحرك بل أعدّت بنيتها التحتية وخططها البديلة وأقامت جسور التعاون الإفريقي ما يجعلها اليوم في موقع مختلف عن أي طرف آخر.
إنها دولة تدرك أن الاستقرار الإقليمي لا يُبنى بالتصادم بل بالتفاهم، ولا يُصان بالقوة وحدها بل بالوعي والمسؤولية.
وكما كانت معركة اكتوبر ٧٣ درسا للعالم أجمع فإن معركة مصر في ملف النيل قدم درساً أوسع للعالم وهو : كيف يمكن لدولة أن تحوّل التحديات المصيرية إلى فرصة لإثبات ريادتها ووعيها السياسي. وبينما تتصاعد الأزمات من حولها تظل مصر حاضرة بخطواتها الاستباقية وكأنها تُعيد التأكيد على حقيقة قديمة متجددة:
أن النيل ليس مجرد نهر بل هو شهادة على قدرة المصريين عبر العصور على قراءة المستقبل وصناعته وقبول التحديات وتحويلها لفرص تنمية وتطوير.
إنها مصر -إنها مصر -إنها مصر.

اترك رد

%d