السبت, 18 أكتوبر, 2025 , 12:40 ص
د. وفاء الجندي

مصر… دبلوماسية النصر وحنكة القيادة في معركة غزة

بقلم / وفاء الجندي

لم يكن الدور المصري في ملف غزة وليد لحظة أو رد فعل مؤقت على تصعيد عابر، بل هو امتداد طبيعي لدولةٍ تمتلك تاريخًا عريقًا في إدارة الأزمات الإقليمية المعقدة، وخبرةً راسخة في التعامل مع الملفات المتشابكة سياسيًا وأمنيًا وإنسانيًا. لقد أثبتت مصر بكل طاقمها الدبلوماسي والاستخباراتي وعلى رأسهم القيادة السيادية أنها مدرسة متفردة في فن إدارة الصراع وتحقيق التوازن بين القوة والعقل وبين الثبات والمناورة.
ومن المنصف القول إن ما قامت به مصر في هذا الملف، يستحق أن يُدرّس في كليات السياسة والاقتصاد ليس فقط كحالة نجاح دبلوماسي بل كنموذج متكامل في “إدارة الأزمات متعددة الأطراف”. فمصر لم تكن تتعامل مع طرف واحد بل مع ثلاثة أطراف متناقضة المصالح:
• الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حماس التي تمثل الصوت المقاوم على الأرض.
• إسرائيل التي تسعى لتثبيت واقع أمني يخدم مصالحها دون الالتفات للكارثة الإنسانية.
• الولايات المتحدة الأمريكية، اللاعب الأكبر الذي يوازن بين المصالح الإسرائيلية وضغوط الرأي العام العالمي.
ورغم هذا التشابك، استطاعت القاهرة بحنكتها السياسية وحضورها الاستراتيجي أن تحافظ على خيوط التواصل مفتوحة مع الجميع ودون أن تفقد حيادها أو مكانتها كوسيطٍ موثوقٍ به.
لقد أعادت مصر تعريف الوساطة من جديد وتعريف آليات ونظريات الدبلوماسية فلم تكتفِ بدور الناقل للرسائل، بل تحولت إلى فاعلٍ رئيسي في رسم مسار التهدئة وتشكيل الموقف الدولي.
ومن قلب هذه المعركة السياسية الضروس خاضت مصر حربًا من نوع آخر — حرب الدبلوماسية الهادئة — في مواجهة أكثر من عدو: العدو المسلح على الأرض، والعدو الإعلامي الذي حاول تشويه الحقائق، والعدو السياسي الذي سعى لتهميش الدور العربي في القرار الدولي. ومع ذلك، تمكنت القاهرة، بإيمانها وصبرها وحكمتها، من تحويل الأزمة إلى منصة لإعادة الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، والدفع نحو تثبيت دعائم الدولة الفلسطينية كحقيقة يجب أن تُفرض على طاولة السياسة العالمية.
لقد تحركت مصر في أكثر من اتجاه في آنٍ واحد:
• دبلوماسيًا عبر اتصالات مكثفة مع واشنطن وتل أبيب والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي لتثبيت وقف إطلاق النار.
• سياسيًا عبر حشد التأييد الدولي للاعتراف بدولة فلسطين كخطوة أولى نحو السلام العادل.
• إنسانيًا من خلال فتح معبر رفح وتقديم الدعم والإغاثة، لتثبت أن البعد الإنساني جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري.
ومع مرور الوقت، اتضح أن نصر مصر في هذه المعركة لا يقل عظمة عن نصر أكتوبر 1973 بل ربما يفوقه في تعقيداته وتأثيره لأن معركة غزة كانت حرب عقول ومواقف لا دبابات وجيوش. وقد شاء القدر أن يتجدد نصر مصر في أكتوبر، الشهر الذي كتب على صفحاته أن يكون شهر الانتصار الدائم لهذه الأمة.
إن ما أنجزته مصر اليوم هو إعادة صياغة للواقع السياسي الإقليمي، وتثبيت لمعادلة جديدة تقول إن من يملك مفاتيح السلام في الشرق الأوسط هي القاهرة، لا غيرها. ومن هنا، يصبح من الواجب أن يُدرّس هذا الملف في كليات السياسة كنموذج فريد للدبلوماسية النشطة المتوازنة، التي جمعت بين القوة الهادئة والعقلانية الحاسمة في مواجهة أكثر الملفات تعقيدًا في العالم المعاصر.
تحيا مصر .

اترك رد

%d