بقلم د/ وفاء الجندي
في لحظةٍ مشحونةٍ بالرموز، وقف الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام العالم، يضع قطعة حجر في افتتاح المتحف المصري الكبير، وكأن الزمن توقف ليُسجِّل مشهدًا يتجاوز البروتوكول إلى فعلٍ رمزيٍّ عميق، يربط بين إرث الأجداد العظام ورؤية الدولة الحديثة.
لم يكن المشهد مجرد افتتاح لمتحفٍ ضخم، بل كان رسالة سياسية وثقافية للعالم ممتدة الطبقات، تحمل دلالات تتجاوز المكان لتصل إلى روح الأمة وهويتها ودورها في العالم.
*الحجر… رمز البقاء والهوية المتجددة
منذ فجر التاريخ، لم يكن الحجر في الحضارة المصرية مادة بناء فحسب، بل رمزًا للخلود والثبات والهوية. على الحجر نقشت الحروف الأولى للتاريخ، وعلى الحجر بُنيت أهرامات الخلود، وعلى الحجر خُلدت أسماء الملوك والكهنة والعلماء.
وحين يضع السيسي حجرًا جديدًا في صرحٍ يحمل ذاكرة سبعة آلاف عام، فهو لا يبدأ مشروعًا معماريًا، بل يُعلن استمرارية مشروع الوجود المصري نفسه.
هذا الحجر ليس في جدار المتحف فقط، بل في جدار الزمن.
إنه حجر في معركة إثبات الذات، ورسالة تقول للعالم:
“مصر لا تعيش على أطلالها… بل تبني فوق جذورها.”
الرمزية هنا مزدوجة: فالحجر هو “الأساس”، وهو أيضًا “العهد”.
أساسٌ لدولةٍ تعيد ترميم ذاكرتها، وعهدٌ بأن هذه الذاكرة ستظل حيّة لا تموت.
*المتحف… رسالة القوة الناعمة
اختيار المتحف المصري الكبير ليكون مسرح هذا المشهد لم يكن تفصيلًا بروتوكوليًا ،فالمتحف، الأكبر من نوعه في العالم، ليس مجرد مشروع ثقافي، بل أداة دبلوماسية للقوة الناعمة المصرية.
هنا تتحول الحضارة من مجرد ماضٍ مروي إلى حاضرٍ فاعل في السياسة الدولية.
فبينما تتصارع الأمم على القوة العسكرية والاقتصادية، تلوّح مصر بسلاحها الأقدم والأبقى: حضارتها.
*الرسالة المبطنة للعالم واضحة:
“من القاهرة تُضاء ذاكرة البشرية، ومن هنا تُعاد كتابة التاريخ بلغة السلام والجمال.”
إنها رسالة تُطمئن الداخل وتخاطب الخارج، بأن مصر التي أنجبت أول حرف وأول قانون، لا تزال قادرة على أن تكون الضمير الثقافي والروحي للإنسانية.
*المشهد… إخراج رمزي بعناية سياسية فكل تفصيلة في حفل الافتتاح كانت محسوبة لتخدم خطابًا سياسيًا ناعمًا ومتصاعد الإيحاء:
-الإضاءة الذهبية، الموسيقى المستوحاة من نغمة المعبد، مزيج الأزياء الفرعونية الحديثة، تمثال رمسيس الثاني المنتصب في الخلفية — كلها عناصر لم تُوضع عبثًا، بل لتجسّد فكرة أن مصر القديمة والمستقبلية تتصافحان أمام عيون العالم.
الرمز البصري في وضع الحجر أمام تمثال رمسيس الثاني بالذات عميق:
رمسيس هو الملك الذي مثّل القوة والحكمة والقيادة.
ووقوف السيسي أمامه في لحظة الافتتاح بدا وكأنه استدعاء لرمز القيادة التاريخية ليعلن عن ولادة “قيادة جديدة” في الحاضر، تستلهم الحكمة ذاتها وتواجه تحديات العصر بروح الأجداد.
*مصر… بين الرسالة والريادة
الحفل لم يكن مناسبة ثقافية فحسب، بل إعلانًا لعودة مصر إلى دورها المركزي في العالم في زمنٍ يعاد فيه رسم خرائط النفوذ، أرادت القاهرة أن تقول بوضوح:
“من هنا بدأ التاريخ، ومن هنا يستمر.”
الحجر الذي وُضع أمام عدسات الإعلام العالمي هو بيان سياسي ناعم مفاده أن مصر — رغم ما واجهته من تحديات داخلية وإقليمية — لا تزال قادرة على البناء، والتجدد، وصياغة خطاب حضاري عالمي.
*الرسائل السياسية في المشهد يمكن قراءتها على عدة مستويات:
1. إلى الداخل:
مصر تبني وتنهض، والمتحف هو رمز لدولة تعرف قيمة هويتها، وتستمد من حضارتها طاقتها لبناء المستقبل.
إنها رسالة طمأنة وثقة: “لسنا في أزمة وجود، بل في مرحلة استعادة روح.”
2. إلى العالم العربي وإفريقيا:
القاهرة لا تزال مركز الثقل الثقافي والسياسي، بوابة القارة الإفريقية، وصاحبة الصوت الأقدم والأعمق في وجدان المنطقة.
3. إلى الغرب:
بينما ينشغل العالم بالسباق الصناعي والتكنولوجي، تذكّرهم مصر أن القيمة الحقيقية للإنسان في حضارته.
المتحف ليس استعراضًا للآثار، بل درس في معنى البقاء والتجدد.
4. إلى العالم بأسره:
الحضارة المصرية ليست ماضٍ يُحكى، بل رسالة إنسانية تتجدد — رسالة تقول: “العظمة لا تموت، بل تتطور.”
*الحجر… بين السياسة والروح
ربما لم يتحدث السيسي كثيرًا في تلك اللحظة، لكن الفعل وحده كان خطابًا بليغًا.
فبينما اعتادت السياسة أن تُدار بالكلمات، فضّل أن يتحدث بالحجر، لأن الحجر في الوجدان المصري أصدق من الخطب.
إنه يرمز إلى العمل والدوام، إلى الجهد الصامت الذي يخلّد أثره في الصخر، لا في الهواء.
هنا يتحول الفعل الرمزي إلى لغة جديدة للسياسة المصرية — سياسة تمزج بين العمق الثقافي والدلالة البصرية، بين التاريخ والحداثة، بين الهوية والمستقبل.
*الحجر صرخة في وجه النسيان
عندما لامست يد الرئيس الحجر، بدا المشهد كما لو أنه مصالحة بين الماضي والحاضر، وبين ما كان وما سيكون.
لحظةٌ تختصر آلاف السنين من الصمود، تقول للعالم بلغة لا تحتاج إلى ترجمة:
“هذه مصر… منارةٌ لا تنطفئ، وصوتٌ لا يسكت، وحضارةٌ لا تُشبه سواها.”
وفي نهاية الحفل، لم يكن الحجر الذي وُضع في المتحف مجرد رمز لبداية صرح أثري، بل بداية عهدٍ جديد من الوعي المصري.
لقد قال المشهد كله، دون أن يقول أحد كلمة:
هنا قلب الحضارة… ومصر تعود لتقود من جديد.
بوابة الوطن المصرى أجرأ موقع عربى
				
			
			
			
		
