الخميس, 31 أكتوبر, 2024 , 8:52 ص

د. أسعد دوراكوفيتش يكتب: شهرزاد تحت الضوء والأهرامات

 

لم تكن شهرزاد البطلة الرئيسة في السِّفر الخالد “ألف ليلة وليلة” فحسب، بل كانت أيضًا رمزًا يحمل العديدَ من المعاني، والدلالات؛ فهي تجسيد للكسموبوليتانية، والحكمة، والاستمرارية التي جاءت نهاية الأمر – مع فجر إحدى الصباحات البعيدة- لتنقذ ذاتها، والعالم/ المملكة؛ والملك الشرير من شروره.

إنَّها تمثل كَوْنًا من الثقافات، والحضارات العتيقة؛ فقد انبثقتْ من حضارة الهند السنسكريتية، ومن تراث أفضل التجارب، والثقافات، والحضارات المزدهرة في بلاد فارس، ومن بغداد العباسية التي كانت عاصمة العالم الحضارية، والعلمية التي لا تُطاول، ولا تُدانى، تلك التي كانت تبزغ بهذا بكل هذا الإشراق، والمهابة، كما تشرق شمس المشرق الناصعة على جنبات الأهرامات المختالة زهوًا وتيهًا، وكأنها سرٌّ من أعاجيب عالمنا.

إنَّ شهرزاد هي أرفع من مجرد شخصية أدبية في تاريخ الأدب العربي؛ فهي الحكمةُ، والتجاربُ لأجمل إشراقات الجنس البشري الحضارية. إنها تروي عن الماضي الغرائبي؛ لكي تؤثر مصيريًّا على الواقع المرير- بل وعلى المستقبل كذلك- عن طريق السرد، والحكمة؛ فهي تعلمنا أنَّ الشر المتجسد بأبشع درجات النذالة في الملك شهريار يمكن التحكمُ به عن طريق الحوار، والحكمة، والصبر، وعدم التخلي عن القيم. فلقد نقلتْ الحقيقة عن طريق استمرارية الحكمة، والمعاناة القاسية إلى الملك الشرير، حتَّى جذبته في نهاية الأمر إلى نور ذلك الصباح المنقذ. ومن ثَم غدتْ بهذه الطريقة ضرورةً أخلاقيَّة لعالمنا العاثر، وعبرةً، وأمثولةً يجب أن يقتدي بها.

ولنتأمل الأعجوبة! فبعد الغزوات الظافرة على هذا الشرق الممتد، هي ترتحل إلى أوروبا  فجأة- ببذلة غرائبية  الفرنسي غالاند- لكي تبدأ الحكي وسط باريس أمام السيدات الفرنسيات المفتونات؛ لتروي بإثارةٍ، وإعجاب فضولَ الغرب للأدب الشرقي! حيث ترحل شهرزاد من المدينة المشرقة بترجمةٍ فاتنةٍ، وحكمةٍ بالغة آتية من بعيد عبر الشرق الأوسط إلى أوروبا، ليتبناها الغرب كلُّه! فتصبح إحدى أجمل إهداءات الشرق إليه! تمامًا كما تهديه شمس الشرق في الأفق النورَ، والحكمة.

إنَّ شهرزاد- إذن- هي صنو لأعلى المسرات التي تغيرُ ذاتها بطرائق غير مترددة، مستأهلة لنور الفجر وذراه، ومستأهلة لزهو الأهرامات. فهَا هي ترتحل إلى مملكة الأوبرا؛ لتقول إنَّ الموسيقى فن فوق كل الفنون! إنها هي تعود إلى الشرق من الغرب الذي اغتنتْ فيه بتجارب جديدة! تجارب عجيبة مثل الموسيقى  الكلاسيكية، وتلك واحدة من تحولاتها العديدة؛ حيث الدخول إلى مملكة الموسيقى بعد كل الممالك المبهرة التي زارتها من قبل.

إنَّ رسالتها ذات أهمية كُبرى بالنسبة لنا اليوم؛ فقد أصبح عالمنا بحاجة إلى حوار يشبه حوارها مع شهرزاد؛ حوار يتسم بالحكمة أكثر من أي وقت مضى. ولعلَّ الموسيقى هي اللغة العالمية القادرة على تحقيق ذلك الانسجام، ونشر السلام، والطمأنينة، والهدوء، تلك الصفات النبيلة التي جسَّدتها شهرزاد على مرور الزمن حتَّى أضحتْ تشبه ذلك النور العجائبي الآتي من الشرق، وتلك الأهرامات الخالدة التي تبرهن على الصمود، والاستقرار.

 

اترك رد

%d