الأربعاء, 21 مايو, 2025 , 1:33 ص
د. غالي أبو الشامات

بين الصين وأمريكا… هل يستثمر العرب لحظتهم التاريخية؟

بقلم الدكتور – غالي ابو الشامات

يشهد العالم في السنوات الأخيرة إعادة تشكيل عميقة في موازين القوى الاقتصادية والسياسية، أبرز ملامحها الصراع المحتدم بين الولايات المتحدة والصين، والذي لم يعد محصورًا في الرسوم الجمركية أو السياسات التجارية، بل امتد ليشمل النفوذ الجغرافي، التكنولوجيا، والهيمنة على سلاسل الإمداد العالمية.

في هذا المشهد الدولي المعقد، تقف دول الوطن العربي أمام لحظة تاريخية نادرة، حيث يمكنها – إذا ما أحسنت استغلالها – أن تتحول من ساحة للتأثر إلى لاعب فعّال ومؤثر في النظام الاقتصادي العالمي الجديد.

النفط والغاز: ثروة قائمة ولكنها غير كافية

لا يخفى على أحد أن ثروات الوطن العربي من النفط والغاز، وبخاصة في دول الخليج العربي، تمثل أحد أعمدة الاقتصاد العالمي. هذه الثروة منحت المنطقة ثقلًا ماليًا واستراتيجيًا على مدى عقود. ولكن ما بعد 2020 أثبت أن الاعتماد الأُحادي على الطاقة التقليدية لم يعد كافيًا.

الفرصة الحقيقية اليوم تكمن في تحويل هذه الثروة إلى محرك تنمية شاملة، من خلال تطوير الصناعات البتروكيماوية، نقل التكنولوجيا المتقدمة في الحفر والاستكشاف، وتوسيع قاعدة التصدير لتشمل منتجات صناعية مشتقة لا مجرد مواد خام. كما يجب التركيز على مشاريع الطاقة المزدوجة (الهجينة) التي توائم بين التقليدي والمتجدد.

في المقابل، يبقى الخطر الحقيقي في التقلبات المستمرة لأسعار الطاقة عالميًا، والتي قد تؤثر بشكل مباشر على الموازنات العامة للدول، مما يحتم تسريع برامج التنويع الاقتصادي قبل أن يُصبح الوقت متأخرًا.

التحول إلى الطاقة النظيفة: الشمس والرياح في خدمة العرب

إذا كانت الدول الصناعية تسعى جاهدة لتقليل انبعاثاتها الكربونية، فإن الدول العربية تملك ما لا تملكه تلك الدول: موقع جغرافي مثالي لمشاريع الطاقة المتجددة. الإشعاع الشمسي في معظم أنحاء العالم العربي يعد الأعلى عالميًا، إلى جانب توفر الرياح المستقرة في مناطق مثل البحر الأحمر وسواحل شمال إفريقيا.

ما بدأته السعودية بمشروع “نيوم”، ومصر بمجمع “بنبان”، والإمارات بمدينة “مصدر”، هو فقط البداية. المستقبل في هذا القطاع يعتمد على مدى جدية الدول في توطين الصناعة، تدريب الكفاءات، وتقديم الحوافز للمستثمرين المحليين والدوليين على حد سواء.

إضافةً إلى الأثر الاقتصادي، فإن التحول إلى الطاقة النظيفة يمنح الدول العربية ميزة تنافسية في الأسواق الأوروبية التي تفرض قيودًا بيئية متزايدة على وارداتها.

البنية التحتية والتكنولوجيا: العمود الفقري للتنمية الذكية

الاقتصاد الحديث لا يقوم فقط على الموارد، بل على البنية التي توصل تلك الموارد إلى الأسواق. وهنا يظهر ضعف البنية التحتية في كثير من الدول العربية كعائقٍ حقيقي أمام النهوض الاقتصادي.

استثمار الدول الخليجية في مشاريع عملاقة مثل “ذا لاين” و”ميناء الملك عبدالله”، ومحطات الميترو والقطارات فائقة السرعة، يعكس إدراكًا متزايدًا لأهمية الربط بين النمو العمراني والتحول الرقمي.

لكن التحدي الأكبر هو في البلدان التي تعاني من ضعف الخدمات الأساسية، وتحتاج إلى إعادة بناء جذري للبنية التحتية. وربما تكون الشراكات مع القطاع الخاص، وصناديق الاستثمار السيادية، هي الحل الأمثل لتسريع هذه العملية، بدلًا من الاعتماد الكلي على التمويل الحكومي.

السياحة والتراث: قوة ناعمة بإمكانات صلبة

العالم العربي ليس مجرد منطقة طاقة، بل مهد حضارات، وملتقى أديان، وموطن مواقع تاريخية لا تقدر بثمن. من الأهرامات في مصر، إلى البتراء في الأردن، إلى تدمر في سوريا، وقصر الحمراء في المغرب، تمتلك المنطقة كنوزًا سياحية تتفوق على كثير من الوجهات العالمية.

تطوير هذا القطاع لا يتطلب فقط الترميم والبنية الفندقية، بل يتطلب عقلية جديدة في التسويق، إدارة التجربة السياحية، وتكامل القطاعات المساندة من طيران، أمن، وخدمات ذكية. كما أن فتح أبواب الاستثمار في السياحة الدينية، الصحية، والبيئية، يمكن أن يفتح آفاقًا غير تقليدية أمام دول مثل العراق، الجزائر، وسلطنة عمان.

والأهم من ذلك كله، هو أن إحياء السياحة في دول تعافت من الأزمات مثل ليبيا وسوريا، لا يحمل فقط بعدًا اقتصاديًا، بل رسالة حضارية بعودة الحياة والاستقرار.

التموضع الذكي في النزاع العالمي: لا مع أحد، بل مع الجميع

في ظل صراع النفوذ بين الصين وأمريكا، لا يمكن للدول العربية أن تكتفي بدور المتفرج. ولكن في الوقت نفسه، الانحياز لأحد الطرفين قد يحمل تبعات سياسية واقتصادية طويلة الأمد. وهنا تبرز أهمية تبني سياسة التوازن الذكي، والتي تقوم على تنويع الشراكات، وبناء التحالفات حسب المصالح لا الولاءات.

يمكن للعرب أن يلعبوا دور الوسيط الاقتصادي العالمي، من خلال تطوير الموانئ، المناطق الحرة، والمراكز اللوجستية، التي تربط الأسواق الإفريقية والآسيوية والأوروبية. كما أن تعزيز الصناعات التحويلية، وتوطين الصناعات الدقيقة والتكنولوجية، سيساعد في تقليل الاعتماد على استيراد المنتجات الحيوية.

الشباب: المورد الذي لا ينضب

من بين كل الثروات التي يمتلكها الوطن العربي، يبقى المورد البشري هو الأهم. فغالبية السكان تحت سن الثلاثين، وهي ميزة ديمغرافية نادرة مقارنة بالدول الصناعية ذات المجتمعات الشائخة.

لكن هذه الميزة لن تتحول إلى قوة حقيقية ما لم تُمنح الفرصة. مطلوب الآن منظومات تعليم حديثة، مراكز تدريب فني وتقني، وحاضنات أعمال تفتح أبواب الريادة أمام الشباب العربي، بعيدًا عن البيروقراطية التقليدية التي تخنق الإبداع.

إن الاستثمار في العقل العربي هو الاستثمار الوحيد الذي لا يخسر، ولا يتقادم.

خاتمة: من التحدي تصنع الفرص

في زمن الصراع بين الكبار، من لا يملك خطة يصبح جزءًا من خطط الآخرين. وعلى العرب، أن يتحركوا اليوم، لا غدًا، لإعادة صياغة دورهم، وبناء نموذج اقتصادي يعتمد على الاستقلال، المرونة، والتكامل بين الموارد الطبيعية والبشرية.

الفرص متاحة، والإمكانيات موجودة، واللحظة مواتية. فهل من يستجيب؟

اترك رد

%d