الأربعاء, 18 يونيو, 2025 , 10:33 م
د. غالي أبو الشامات

جيل Z العربي: بين التمرد الرقمي وغياب المشروع القومي

بقلم – د. غالي أبو الشامات

قبل أن نخوض في تحليل الواقع، يجب أن نخلع القفازات الناعمة ونقولها بوضوح:
جيل Z العربي ليس بريئًا بالكامل

هو جيل نشأ في زمن مُشتعل، بين انهيارات سياسية، وركود اقتصادي، وثورات مُجهضة، وتحولات تكنولوجية متسارعة لا ترحم.
جيل فتح عينيه على عالم مفتوح، لكنه للأسف بلا سقف، وبلا خريطة، وبلا بوصلة.

لكن في المقابل، لا يمكن أن نستمر في تقديمه كضحية فقط. هذا الجيل ساهم بنفسه في تسطيح المشهد، وتسليع القيم، وتحويل المعنى إلى محتوى، والهوية إلى فلتر.

الحقيقة التي لا يريد أحد قولها:

جيل Z سقط في فخ التسلية الدائمة، ثم انجرف إلى ما هو أخطر: تسليع كل شيء.
• تسليع الذات: أصبحت الصورة أهم من الحقيقة، والظهور أهم من الجوهر، و الخيال اهم من الواقع.

• تسليع العلاقات: تُقاس العلاقات بعدد المتابعين، لا بالثقة أو العمق.

• تسليع القضايا: حتى القضايا العادلة تُباع في مزاد الترند.

• تسليع القيم: من الدين إلى الوطنية، كل شيء يُستثمر لجمع المشاهدات و التفاعلات.

الجيل نفسه لم يصنع هذه المنظومة، لكنه تكيّف معها بسرعة، بل وأعاد إنتاجها بشكل أعنف وأسرع.

صُنّاع الإلهاء: كيف تُدار العقول في عصر “السوشال ميديا”؟

ما يحدث اليوم ليس “حرية تعبير”، بل هندسة ممنهجة للسلوك الجمع، لم تكن يوماً حرية التعبير على حساب اهانة العقل و الشعور و البشرية.

منصات التواصل الاجتماعي ليست مجرد أدوات ترفيه؛ هي شركات عملاقة تُدار بخوارزميات دقيقة تُصمم لتسرق انتباهك، وتُغذي إدمانك، وتُشكّل ذوقك وتوجهاتك.

ما يحكم المشهد ليس المنطق، ولا الأخلاق، ولا الجودة، بل شيء واحد:
الزمن الذي تقضيه على الشاشة.
لأنه هو العملة الحقيقية في اقتصاد السوشال ميديا.

من الشاشة إلى اللاوعي: التأثير الخفي

جيل Z لا يستهلك السوشال ميديا… بل هو يُعاد تشكيله من خلالها:
• كيف يرى نفسه
• كيف يُقيّم الآخرين
• ما الذي يستحق الغضب
• ما هو “النجاح”
• وحتى ما الذي يُضحك وما الذي يُبكي

كل هذه الأمور لم تعد تُبنى من الداخل، بل تُفرض من الخارج، وتُزرع تدريجيًا في لاوعيه عبر جرعات صغيرة من التكرار، والتطبيع، والضغط الجماعي.

وبدلاً من أن تُصبح هذه المنصات أدوات تحرر، تحولت إلى سجون رقمية أنيقة، تُوفر وهم الحرية لكنها تسلبك إرادتك. هو سجن اصغر بكثير من سجون الواقع، هو سجن داخل مربع شاشة هشة، يصعُب على مستخدمها كسرها.

انعكاسات اجتماعية وسياسية: جيل مشغول عن المعركة الحقيقية

الوعي السياسي عند هذا الجيل أصبح هشًا، متقلبًا، سريع الانفعال، بطيء الفعل.
القضايا الكبرى تُختصر في هاشتاغات، والتغيير الحقيقي تم استبداله بموجات من الغضب المؤقت الذي لا يترك أثرًا.

نحن أمام جيل قادر على إثارة الرأي العام في 30 ثانية… لكنه لا يصمد في معركة بناء مشروع حقيقي لمدة 30 يومًا.

والأخطر؟
أن هذا التشتت لم يأتِ من فراغ. هناك قوى – محلية وعالمية – تدرك تمامًا أن جيلًا مشتتًا، استهلاكيًا، هشّ الهوية… هو جيل لا يُهدد أحدًا، ولا يُطالب بشيء.

التربية الخاطئة: الجذور التي أنبتت الفوضى

لا يمكن أن نتحدث عن جيل Z وننتقده أو نُحلّله دون أن نلتفت إلى الجذر الأول: البيت، والأسرة، والتنشئة.
جيل Z لم يُربَّ في فراغ. بل نشأ في بيئة تربوية مشوشة، متناقضة، تائهة بين التقليد والتقنية، وبين القمع والتدليل.

في كثير من البيوت العربية، حدث الآتي:

• قُمعت الأسئلة في الطفولة، ثم شُتم المراهق لأنه لا يفكر.
• مُنع الطفل من الخطأ، ثم عُوقب الشاب لأنه لا يتحمل المسؤولية.
• فُرضت عليه الطاعة العمياء، ثم عُيّر لاحقًا بأنه بلا شخصية.
• تُرك أمام الشاشة كحلٍ سهل “لإسكاته”، ثم لُعن لأنه أدمنها.
• فُرضت عليه القيم بالقوة، لا بالفهم، فخرج منها بدون قناعة.

لقد رُبّي هذا الجيل – في كثير من الأحيان – على الخوف، والسطحية، والتناقض.
وتمت معاملته ككائن ناقص، لا يُفكر، ولا يُناقش، ولا يملك صوتًا.

الآباء أرادوا أبناءً مثاليين… دون أن يكونوا قدوة.
والمجتمع أراد شبابًا ملتزمين… بينما هو يُغرقهم في نفاقه الاجتماعي والديني.

جيل Z ليس متمرّدًا بالفطرة… بل مجروح بالتجربة.

من التوصيف إلى التصحيح: ما العمل؟

اللوم وحده لا يكفي. هذا الجيل ليس مشروعًا فاشلًا… بل مشروع غير مُكتمل.
لكن تصحيحه لا يكون عبر المحاضرات أو النصح، بل عبر:

1. إعادة تعريف التعليم

نحتاج إلى تعليم يُنتج الوعي لا الحفظ. يُخاطب العقل، ويُمارس الحياة، لا يُلقّن المعلومة.

2. صناعة مشروع وطني رقمي

مشروع كبير يُشرك هذا الجيل في بناء شيء أكبر من نفسه. يدمج بين التقنية والهوية، بين الرفاهية والمعنى.

3. استعادة السيطرة على المحتوى

دعم منصات تصنع محتوى عربي ذكي، جذّاب، عميق، وقادر على المنافسة. لا نعني رقابة، بل منافسة فعلية للمحتوى الرخيص.

4. صنع قدوات جديدة

رموز من الجيل نفسه، تمتلك التأثير والعمق، وتجمع بين النجاح والتوازن، بين الوعي والمهنية.

الختام: هذا الجيل لا يُحكم… بل يُحتوى

جيل Z لا ينتظر أحدًا.
إما أن نلحق به بفكر جديد، وسياسات مرنة، ومؤسسات ذكية…
أو سنبقى مجرد خلفية مشوشة في بث مباشر لا يتوقف.

هذا الجيل ذكي، لكنه مشتت.
قادر، لكنه بلا خارطة.
يبحث عن ذاته… في عالم يريد له أن يضيع.

إن لم نصنع له مشروعًا، فسوف يصنع لنفسه فوضى.

اترك رد

%d