كتب – خالد عبد الحميد
أكد الخبير الاستراتيجي اللواء أ.ح سمير فرج أن نيران حرب أكتوبر 73 لم تكن تتوقف وتنقشع رائحة البارود من فوق رمال سيناء، حتي مكثت معظم مراكز الدراسات والأبحاث في دراسة نتائج هذه الحرب الحديثة.
وبعد كل هذه السنوات، التي مرت على انتصارنا في حرب أكتوبر 1973 … مازالت جميع مراكز الدراسات الاستراتيجية، والكليات والمعاهد العسكرية، تؤكد على أن ما قدمته هذه الحرب، في العلم العسكري الحديث، هو، بالفعل، الركيزة الأساسية لعمليات التطوير في مجالات التسليح، والتنظيم، والتكتيكات، وأساليب القتال.
ولقد كانت العقيدة القتالية العسكرية الغربية، هي أكبر المستفيدين من دروس تلك الحرب … فقد كان الجانب الإسرائيلي يتبنى فكر العقيدة الغربية، بينما تتبنى القوات المسلحة المصرية فكراً جديداً، في مفاهيم القتال، عبارة عن مزيج بين الفكر الشرقي، التابع للعسكرية السوفيتية، مضافاً إليه خبرة قتال المصريين، في هذه الحرب الحديثة.
وتمثل تأثير حرب أكتوبر 73، على العقيدة العسكرية الغربية، في عدة مجالات، أهمها ما يلي:
أولاً: بالرغم من تصنيف نوعية أعمال القتال بين الجيش المصري وجيش الدفاع الإسرائيلي، بأنها حرباً تقليدية، إلا أن كلاهما كان مزوداً بأحدث الأسلحة والمعدات، إضافة إلى منظومات جديدة، لم تكن قد استخدمت من قبل في ميادين القتال الحقيقية … إذ استُخدم في هذه الحرب، ولأول مرة، الأسلحة الإلكترونية Electronic Warfare (EW)، والأسلحة الإلكترونية المضادة Counter Electronic Warfare (CEW)، من الجانبين، على أعلى مستوى من التقنيات العلمية.
ثانياً: أن الجيش المصري كان يقاتل، متبعاً العقيدة الشرقية، متسلحاً بمعدات، أغلبها سوفيتية، بينما يطبق جيش الدفاع الإسرائيلي مبادئ العقيدة الغربية، وبالأسلحة والمعدات الغربية … فكان واضحاً، لكل المحللين، أنها معركة بين فكر وتسليح العقيدة الشرقية، ضد فكر وتسليح العقيدة الغربية.
ثالثاً: أن ميادين القتال لم تشهد حرباً تقليدية، منذ الحرب العالمية الثانية في عام 1945، إذ تغيرت، بعدها، مفاهيم القتال … وتغيرت الأسلحة والمعدات، وبدأت التكنولوجيا الجديدة تدخل في كل سلاح ومعدة. حتى أن الحروب التي قامت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، سواء في كوريا أو فيتنام أو غيرهما، كانت كلها من طرف واحد قوي، يستخدم معداته وأسلحته، دون وجود مقاومة منظمة من الجانب الآخر. فلم يظهر فكر جديد في أساليب القتال، أو في استخدام معدات القتال.
رابعاً: أن الجيش الإسرائيلي دخل هذه الحرب، معتمداً على انتصاراته في عمليات 1967، سواء على الجبهة المصرية أو الأردنية أو السورية. فقد حقق سمعة لا بأس بها، قياساً بكافة المدارس العسكرية، التي اعتبرته مثالاً، يمكن الاحتذاء به، وتطبيقه، وتنفيذه في حالات أخرى … ولعل الضربة الجوية الإسرائيلية، ضد مصر، عام 1967، كانت، من وجهة النظر العسكرية، أكبر دليل على ذلك. إلا أن ما أظهره الجيش المصري، خلال حرب 1973، من أداء عسكري متميز، أجبر، جميع المراكز البحثية، ومعاهد الدراسات الإستراتيجية، والمحللين العسكريين، أن يدرسوا، وأن يحللوا كيفية نجاح هذا الجيش، في إلحاق هذه الهزيمة بجيش الدفاع الإسرائيلي، ويقطع اليد الطولى (الطيران الإسرائيلي)، التي، طالما، تغنت بها إسرائيل بعد حرب 1967.
خامساً: عنصر المفاجأة، الذي حققته القوات المسلحة المصرية، على المستويين الإستراتيجي والتكتيكي … أما على مستوى الأداء، فقد دفع ذلك “حاييم هيرتزوج” الرئيس الأسبق لإسرائيل، ومدير استخباراتها الأسبق، أن يكتب في مذكراته عن حرب أكتوبر، والتي نشرت في كتاب، “أن على جيش الدفاع الإسرائيلي، مستقبلاً، أن يكون قادراَ التشبه بنبات البانتا، الذي ينحني أمام الضربات الأولى، المخططة، والمنظمة للقوات المسلحة المصرية … ثم ينهض بعد ذلك ليكيل له الضربات … فالضربات الأولى، المخططة، للجيش المصري، دائماً ما تكون قوية … وسريعة … ومؤثرة.”
سادساً: ما حققته القوات المسلحة المصرية، من إنجازات، خلال حرب الاستنزاف … ولعلنا نذكر عملية إغراق المدمرة “إيلات”، تلك العملية التي أدت إلى تغيير نمط التسليح وأسلوب القتال للقوات البحرية في العالم بأسره. كذلك بناء حائط الصواريخ المصري، غرب القناة، في فترة الاستنزاف … ودوره الرائع، أثناء الحرب، في تحييد القوات الجوية الإسرائيلية، ومنعها من التدخل في عمليات عبور القوات المصرية للقناة.
سابعاً: التكتيكات، وأساليب القتال الجديدة، التي نفذتها القوات المصرية في هذه الحرب، مما دفع المحللين العسكريين، إلى دراستها، والاستفادة منها.
ولعل ما يدعوني، ويدعو العسكرية المصرية، للفخر … هو أن جميع المعاهد العسكرية، حول العالم، وخاصة ذات العقيدة الغربية منها، اعتبرت الدروس المستفادة من حرب أكتوبر 73، جزءاً لا يتجزأ من مناهجها الدراسية في دورات قادة السرايا، والكتائب، والألوية، وكلية أركان حرب، وكلية الدفاع الوطني، فقد كان تفوق القوات المسلحة المصرية، سبباً في تغيير العديد من مفاهيم القتال في العقيدة القتالية الغربية.
وجاءت بشائر تأثيرات التغيير أثناء حرب الاستنزاف المصرية، وذلك بعد إغراق المدمرة الإسرائيلية “إيلات” … حيث بدأت القوات البحرية، في كافة الدول، في التوقف، تدريجياً، عن بناء المدمرات الكبيرة … وحاملات الطائرات … والطرادات، ويبدأ الاعتماد على اللنشات السريعة … الصغيرة … ذات السلاح المتطور، لتأمين السواحل، والمياه الإقليمية. وشرعت الدول في تطوير التدريع لهذه اللنشات، وتسليحها، مع التركيز على وسائل الحرب الإلكترونية بها … والأجهزة الإلكترونية المضادة … وأجهزة الرادار والتشويش … الخ. واليوم، أصبحت اللنشات الصاروخية، هي القوة الضاربة للقوات البحرية، في معظم الدول الغربية، وخاصة في أعمال تأمين القطع البحرية الكبيرة. وهكذا، ومع انتهاء حرب أكتوبر 1973، قامت الدول الغربية بإعادة تنظيم وتسليح قواتها البحرية، انطلاقاً من الفكر الجديد، المعتمد على الخبرة والتجربة المصرية. ومع بداية عصر إلغاء حاملات الطائرات الكبيرة، ظهر بناء حاملات المروحيات، ذات الحجم الصغير … والقوة النيرانية الكبيرة.
أما التأثير الثاني في تغيير المفاهيم القتالية في العقيدة الغربية، فكان في مجال القوات الجوية، حيث أنه طبقاً لمفاهيم مبادئ القتال، فإن عمل القوات الجوية كان يعتمد من قبل على عنصرين هما “السيادة الجوية” Air Supremacy، بمعنى أن القوات الجوية تسيطر على ميدان القتال الجوي بالكامل، ولا تسمح للقوات الجوية المعادية بأي نشاط. والعنصر الثاني كان “السيطرة الجوية” Air Superiority، وهذه السيطرة تكون على ميدان القتال بالكامل، أو على جزء منه، أو لوقت محدد، وفيها يمكن أن تنشط القوات الجوية المعادية بتنفيذ بعض الأعمال. وخلال حرب أكتوبر، أضافت القوات المسلحة المصرية عنصراً ثالثاً، في مفاهيم أسلوب استخدام القوات الجوية، وهو “تحييد القوات الجوية المعادية” Neutralizing Enemy Air Force، وهذا المفهوم الجديد، يعني أنه بالرغم من أن القوات المعادية، لديها قوات جوية … قوية … ذات كفاءة عالية … وبأعداد كبيرة، تحقق لها السيطرة الجوية … إلا أنها لا تستطيع المشاركة في ميدان القتال … فقد ظلت القوات الجوية الإسرائيلية عاجزة عن تقديم أي عون جوي لقواتها الأرضية، نتيجة لنجاح المصريون في بناء حائط للصواريخ على الضفة الغربية للقناة، يمنع القوات الجوية الإسرائيلية من توفير غطاء جوي لقواتهم البرية، في الهجمات المضادة ضد القوات المصرية، التي اقتحمت قناه السويس. ولعل أبلغ دليل على ذلك، كان التحذير الذي أطلقه قائد القوات الجوية الإسرائيلية، أثناء الحرب، لقواته، بعدم الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15 كيلومتر، وجاء هذا التحذير في رسالة مفتوحة … غير مشفرة … لضمان سرعة وصولها لجميع قواته! وظلت محاولات القوات البرية الإسرائيلية بتسديد ضرباتها المضادة للقوات المصرية، التي عبرت القناة، دون أي مساندة جوية. وهكذا نجح حائط الصواريخ المصري، في بتر “اليد الطولى” لجيش الدفاع الإسرائيلي.
وامتدت التأثيرات إلى تأثير ثالث، وهو إمكانية قتال عناصر المشاة المترجلة، دون قوة الصدم (الدبابات). فقد كان المفهوم قبل حرب أكتوبر 73، أن قوات المشاة لا يمكنها التمسك بالأرض، منفردة، دون قوات مدرعة لأكثر من 3-4 ساعات، وهو ما كان ينطبق، غالباً، على قوات المظلات، أو على القوات المبرة جواَ، والتي تسقط بعيداً عن القوة الرئيسية. ولذلك كان من الضروري أن تلحق بها القوات الرئيسية، وخاصة المدرعات، في مدة لا تزيد عن 3-4 ساعات. ولكن جاءت حرب أكتوبر، وبتخطيط رائع وضعه المصريون، في التوجيه رقم 41، الذي تم إعداده بمعرفة لجنة رأسها الفريق/ سعد الشاذلي-رئيس الأركان، الذي أتاح لقوات المشاة العبور، بدون دعم، لمدة 12 ساعة، هي مدة إتمام إنشاء الكباري، وعبور الدبابات. وهو ما تم التخطيط له باستخدام الأسلحة المضادة للدبابات، وبحسابات دقيقة للموجات الأولى من المشاة المترجلة، فتمكنت من صد، وتدمير الاحتياطيات المدرعة الإسرائيلية شرق القناة في “خط بارليف”. وهذا أمر، لم يكن لأي مخطط عسكري أن يقبل به، قبل حرب أكتوبر 1973. فقد تم التخطيط لدعم كل كتيبة مشاة مترجلة بعدد من قواذف “أر.بي.جي”، ومعها الذخيرة الكافية … حملها الجنود المشاة، ومعهم، لأول مرة، صواريخ المقذوفات الموجهة المضادة للدبابات، المالوتيكا الروسية. وبالرغم من أنها كانت من الجيل الأول، الذي كان يوجه بالسلك، وتتعرض دقة الإصابة لقدرة الجندي على التوجيه تحت نيران العدو، إلا أن كتيبة المشاة المترجلة، في رأس الكوبري، نجحت في صد الهجمات المضادة للمدرعات الإسرائيلية. أما المفاجأة الأخيرة، في التوجيه 41، تمثلت في أن كل جندي كان يحمل على صدره وظهره لغم مضاد للدبابات، فتكونت، لأول مرة في تاريخ الحروب الحديثة، ما يعرف باسم “الستارة المصرية المضادة للدبابات”. ويمكن الرجوع لقانون القتال البريطاني، في بند القتال في الأراضي الصحراوية، والأراضي المفتوحة، لتجد هذا البند ينص على استخدام “الستارة المصرية المضادة للدبابات”، مشيراً لأنها نتاج فكر المصريين في حرب أكتوبر.
أما التأثير الرابع، فكان “الحصار البحري عن بُعد” Distant Naval Blockade، حيث أشارت المراجع العسكرية الغربية، إلى أن المصريين نجحوا في غلق مضيق باب المندب ضد الملاحة الإسرائيلية … فيما يعد أكبر مفاجأة من مفاجآت حرب أكتوبر … حيث استخدم المصريون قواتهم البحرية في باب المندب، بعيداً عن القوات الجوية لجيش الدفاع الإسرائيلي. فقد كانت كل تقديرات جيش الدفاع الإسرائيلي تعتمد على أن أي تفكير مصري لإغلاق الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر، سيتم من خلال مضايق تيران وصنافير، واثقة بأنها ستكون، حينئذ، في مدى القوات الجوية الإسرائيلية. وبذلك أظهر المصريون براعتهم في إغلاق الملاحة، بإعلان تواجد قواتهم البحرية في مضيق باب المندب، ليقف الإسرائيليون عاجزون، طيلة أيام القتال، عن أي رد فعل ضد هذا العمل، وظل ميناء إيلات مغلقاً تماماً. وعليه، فقد كانت أهم نقاط المباحثات، بعد توقف القتال، في “مباحثات الكيلو 101″، أن طلب الإسرائيليين فتح مضيق باب المندب. وهكذا، ولأول مرة، بعد حرب أكتوبر، يظهر في قوانين القتال البحرية، في العقيدة الغربية، ذلك الفكر الجديد … بعنوان “الحصار البحري عن بُعد” Distant Naval Blockade .
وتمثل التأثير الخامس في عنصر المفاجأة … الذي يعد واحداً من أهم مبادئ القتال، في جميع العقائد القتالية الغربية. فقبل حرب أكتوبر 1973، كانت كل المراجع العسكرية تشكك في إمكانية تحقيق المفاجأة بكامل أبعادها … المفاجأة الاستراتيجية، أو المفاجأة التعبوية، أو حتى المفاجأة التكتيكية، في ظل التقنيات الحديثة … ووسائل الاستطلاع والكشف المبكر … والأقمار الصناعية. ولكن جاءت حرب أكتوبر، لتحطم كل هذه الافكار والمفاهيم؛ فحشد القوات المصرية كان موجوداً على القناة، ونجح المصريون في إدخال قوات، وإخراج قوات من جبهة القتال. كما كانت أكبر المفاجآت، التي حققها المصريون، هي الهجوم على خط المواجهة بالكامل، بخمس فرق مشاة، فوجد الإسرائيليون، يوم السادس من أكتوبر في تمام الثانية ظهراَ، وجدوا المصريون يقتحمون القناة، الأمر الذي جعل من الصعب عليهم تحديد اتجاه الهجوم الرئيسي. لذلك عند شرح العقيدة القتالية الغربية، في كتب علم فنون القتال “التكتيك” عن فترة المفاجأة، تجدها تؤكد على إمكانية تحقيق المفاجآت، مرة أخرى، مع التطور الحديث في التكنولوجيا للأسلحة، والمعدات الحديثة. وهو ما أكده نجاح المصريون في حرب أكتوبر 1973، من مفاجأة الإسرائيليين بالحرب على كل جبهات القتال، وبعد اختيار منتصف النهار لبدء الهجوم، خاصة أن كل المراجع وقوانين القتال، كانت تؤكد على أن أنسب توقيتات الهجوم يكون مع أول ضوء، أو آخر ضوء، وهذا ما حقق به المصريين المفاجأة مرة أخرى. فضلاً عن إجراءات المصريين الأخرى، مثل فتح باب العمرة للضباط قبل الحرب، وتسريح دفعات من الاحتياط، وغيرها، والتي كانت، كلها، من أعمال الخداع التي حققت المفاجأة.
وكان التأثير السادس في إضافة بند جديد في مبادئ القتال؛ حيث كانت مبادئ القتال، في جميع العقائد القتالية، هي … المفاجأة … الحشد … السرية … الخداع … المناورة … الخ، فكان البند الجديد الذي تمت إضافته، بعد حرب 73، وهو استخدام “أساليب غير تقليدية في الحرب الحديثة” Non-Conventional Methods in Modern Warfare. وعندما عرضت قوانين القتال الغربية هذا البند، فإنها بدأت منذ حصار طروادة، وصولاً إلى ما حققه المصريين في حرب 1973، من فتح الساتر الترابي باستخدام خراطيم المياه، وهو ما لم يتوقعه الإسرائيليون، إضافة إلى إغلاق أنابيب النابالم في خط بارليف.
أما التأثير السابع، فتمثل في التأكيد على بعض مفاهيم القتال في العقيدة الغربية، والتأكيد على صلاحيتها للتطبيق. فقد تم التركيز على مفهوم By-Pass Policy، وهي أحد أساليب الاختراق في العقيدة القتالية الغربية، والتي تتلخص في أنه خلال العمليات البرية، وفي حالة التوقف أمام أي دفعات لمدة طويلة، فإن القوة البرية لا تتوقف … بل تستمر … تاركة خلفها قوات لتثبيتها حتى تسقط، وتستمر باقي القوات في الهجوم. وهو ما فعله المصريون في حرب 1973، عند اقتحام خط بارليف … فلقد اندفعت الخمس فرق المشاة المصرية، لعبور القناة، متقدمة إلى عمق سيناء، تاركة وراءها نقاط خط بارليف، تتساقط تباعاً. ولا شك أن وصول القوات المصرية المهاجمة خلف خط بارليف، قد أحبط القوات المدافعة الإسرائيلية، في هذه النقاط؛ فمنها من تم اقتحامه بالقوات المصرية بعد ساعات، ومنها من استسلم … وكانت أهمها نقطة لسان بور توفيق، التي استسلمت تماماً … بكامل قواتها … وأسلحتها … وعتادها.
أما التأثير الثامن، فكان إضافة جديدة لمبادئ القتال في العقيدة الغربية، وهو “النوعية”، حيث كان الاتجاه في مقارنة القوات قبل حرب أكتوبر، يعتمد على أعداد الدبابات، والمدفعية، والطائرات، والغواصات، والمدمرات. ولعل أشهر هذه الدراسات ما يقدمه معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن (IISS)، في تقريره السنوي الشهير “التوازن العسكري” The Military Balance. حيث كانت تتم المقارنة بين القوات العسكرية، لكل دولة، وفقاً لعدد المعدات والأسلحة التي تمتلكها … إلا أن حرب أكتوبر 73، قلبت هذه الموازين تماماً. فقبل حرب أكتوبر، ظهر هذا التقرير ليوضح التفوق الكامل لإسرائيل ضد مصر وسوريا ودول الطوق … وكانت هذه الحسابات لصالح إسرائيل … وهو ما أقنع العديد، بأن مصر لن تغامر، قطعاً، بالحرب والهجوم على إسرائيل.
وجاءت حرب أكتوبر … وظهر عامل جديد، لم يكن في الحسابات قبلها … وهو الجندي المصري، الذي قال عنه شارون، في مناظرة عن حرب أكتوبر، أجراها معي شخصياً، وأذاعها التليفزيون البريطاني … فعند سؤال الجنرال شارون عن وجهة نظره، فيما يراه المفاجأة في حرب أكتوبر، هل كان توقيت الهجوم في الثانية ظهراَ؟ هل كان اختيار موعد الهجوم، وهو عيد الغفران في إسرائيل؟ هل كان الهجوم على الجبهتين المصرية والسورية في وقت واحد؟ … هل … هل …؟؟ فجاءت إجابته أن المفاجأة الحقيقية، في حرب أكتوبر، كانت الجندي المصري في عام 1973، الذي اختلف عن الجندي في عام 1967، أو عام 1956! فالجندي المصري عام 1973 كان من المؤهلات العليا (حاملي البكالوريوس) … وروحه المعنوية عظيمة، وهو ما اعتبره أقوى من حساباتهم وتوقيتاتهم، ضارباً مثال اثناء هجوم منطقة الدفرسوار، إذ كان هو يقود سرية دبابات مكونة من 10 دبابات إسرائيلية … في اتجاه الإسماعيلية، وفجأة ظهر أمامه خمسة من “الكوماندورز” مصريين (يقصد من قوات الصاعقة)، ومن الطبيعي أن الخمس جنود، أمام عشر دبابات يعني الموت المحقق لهم، إلا أن الكوماندوز الخمس نجحوا في تدمير خمس دبابات إسرائيلية!!! وبالطبع استشهد هؤلاء الأبطال الخمس المصريين، وأصيب شارون في هذه المعركة، وتم نقله لإسرائيل بعد ذلك. وأضاف شارون … “أن هذا الجندي الذي قابلته في حرب 1973 … ليس الجندي المصري … الذي قاتلته في حربي 1967 وفي 1956. وعليه، فإن مفاجأة هذه الحرب هي … الجندي المصري … وليس غيره”. مضيفاً “أنه يجب على إسرائيل أن تضع في اعتبارها في أي حرب قادمة … نوعية هذا الجندي المصري الجديد”.
ومن هنا، بدأت معاهد الدراسات الاستراتيجية في إضافة بند جديد عند حسابات القوى ومقارنتها، وهو حساب “النوعية القتالية” … ويقصد بها الفرد المقاتل، وكان ذلك بسبب ما حققه المقاتل المصري في حرب 1973 … والذي كان عاملاَ غائباَ عن كل الحسابات والتقديرات السابقة، التي قادت إلى نتائج خاطئة.
أما التأثير التاسع والأخير، فكان تغيير مفهوم “الدفاع المتحرك” Mobile Defense، فقد كان الأسلوب الدفاعي الذي تطبقه إسرائيل للدفاع عن خط قناة السويس، هو الأسلوب الأساسي في الدفاع في العقيدة الغربية، والذي يعتمد على وجود نقاط قوية على الخط الأمامي للدفاع، ثم تواجد احتياطيات قوية في العمق، تواجه القوات المهاجمة في مناطق احتواء، ومناطق قتل لتدميرها. وجاء هجوم القوات المصرية على المواجهة بالكامل، واختراقها للدفاعات الإسرائيلية … فوجدت الاحتياطيات المدرعة الاسرائيلية نفسها حائرة في العمق، لا تستطيع توجيه أي ضربات، وتشتتت الاحتياطيات الإسرائيلية أمام المواجهة بالكامل، وخسرت معركتها. وبانتهاء الحرب، بدأت قيادات حلف الناتو تطبيق مبدأ “الدفاع النشط” Active Defense، وهو الشكل الجديد للنظم الدفاعية، في قانون القتال الأمريكي والبريطاني. أما فرنسا فلقد لجأت إلى تطوير الدفاع المتحرك بشكل جديد هو “الدفاع المتحرك العنكبوتي”، بما يثير الإعجاب والاحترام للقوات المسلحة المصرية … إذ جاءت كل هذه الافكار الجديدة، في تطوير قوانين القتال في العقيدة الغربية، نتاجاً لخبرة قتال القوات المصرية في حرب 1973.
من ذلك كله فإننا نري أن ما حققه المقاتل المصري في حرب أكتبر 73 وهذا النصر العظيم هو نتيجة خبراته ومفاهيم جديدة تم تقديمها في الفكر العسكري وسوف يستفيد منها المفكرين العسكريين في مختلف العقائد العسكرية بتطوير نظرياتهم بعد هذه الحرب التي قدمت العديد للفكر العسكري.