هذا ما نفكر به حين قدومنا إلى بلد مليء بالفرص، نراقب تفاصيل الحياة اليومية لا إرادياُ. يملؤنا الطموح فتثقلنا خيبات الوطن. حين نرى الغرباء يحققون ما حلمنا به ذات يوم في مجتمعاتنا السابقة، تصبح حتى النجاحات موجعة.
"سألت نفسها: ماذا أنجزت خلال سنواتي الماضية؟".. جملة في إحدى الروايات التي كنت أقرأها عندما كنت في سن السادسة عشرة، كان لها أثر الفراشة في حياتي.
كانت بطلة الرواية تسأل نفسها عن إنجازاتها خلال سنواتها التي مضت، وتحصيها واحدة تلو الأخرى. وأغرقتني الأفكار منذ تلك اللحظة، وأُعجبت بالفكرة كثيراً. فما كان مني إلا أن فتحت أبواب ذاكرتي لسنوات مضت، وصنفت كل ما يمكن لي أن أعتبره إنجاز. في ذلك الوقت، كان رصيدي عدة سنوات دراسية، فحينها، كنت في الصف الحادي عشر، وبعض الألحان على آلة الأورغن، والقليل من الرسم والكتابة بين الحين والآخر.
سنوات بعد ذلك، بدأت بدراستي الجامعية، وفي كل سنة تمر، أراهن نفسي على إضافة المزيد من الإنجازات، وإن صغُرت. وبذلك أضيف إلى رصيدي شيئاً يُذكر. إلى أن التقيت بشابة ألمانية، صدفة، أمام مكتب السكن الجامعي، فتبادلنا أطراف الحديث.
كانت الفتاة – في ربيعها التاسع عشر- تحدثني بحماس شديد عن سبب قدومها إلى مكتب السكن الجامعي لإنهاء عقد إيجار غرفتها. كان ذلك بداعي سفرها لقضاء سنة دراسية كاملة في ليما، عاصمة البيرو بأميركا اللاتينية، ملتحقة بإحدى برامج التبادل الطلابي، الذي لم أره أو أسمع عنه في سوريا إلا في الأفلام الأجنبية.
سررت كثيراً بحماسها الذي كان يتوهج في عينيها كشعلة متقدة، مما جعلني أفترض بأنها رحلتها الأولى خارج ألمانيا. إلا أنني كنت مخطئة، فقد أخبرتني بقضائها ستة أشهر في إسبانيا خلال سنتها الجامعية الأولى عبر برنامج دراسي آخر، وقضائها شهراً آخر في كوريا الجنوبية بإحدى المنح أيضاً.
كان حديثها شيقاً عن حضارات مختلفة وتجارب جديدة قد اختبرتها. هذا بالإضافة لبعض التدريبات المهنية التي كانت تقوم بها كل صيف خلال سنواتها المدرسية، التي أغنت حياتها بالتجارب وأدت إلى اتساع أفقها وخيالها. بين قصة وأخرى، كنت أحاول إخماد بركان غيرتي العاجزة، بكلمات إعجاب أقولها لها. ومن ثم أسرح في خيالي محاولة انتشال قصة قد تثير اهتمامها.
كنت أعتقد أن هذه البرامج التعليمية ليست إلا فانتازيا هوليودية. وكيف لي أن أصدق وجود برامج ومنح كهذه أصلاً؟؟.. فكل ما كانوا يتحفوننا ويذكروننا به دائماً وبكل مناسبة، أن الدراسة بسوريا مجانية، وبأن الكتب المدرسية تُقدم بالمجان.. سحقاً لكم ولكتبكم المجانية!.. همست بذلك وصَحَوت من شرودي.. لا أعتقد بأنها سمعتني، وإن سمعت فلم تفهم.
انتهينا من عملنا في المكتب سوية، وخرجنا لاحتساء القهوة في مكان ما لنكمل حديثنا.
في ذلك المقهى، حدثتني عن عملها بالتنظيف في أحد المستودعات لتوفير المال، لتقوم بمغامرة في جبال الألب على الجانب السويسري.
حقاً، التنظيف في ألمانيا قد يأخذك إلى قمة الألب، بينما التنظيف في بلدنا يأخذك إلى قمة الإحراج!! كم هم أثرياء بفرصهم، وكم نحن أثرياء بأحلامنا وفقراء بتحقيقها.
كيف لي أن أخبرها عن إنجازاتي التي طالما قدرتها؟ كيف لي أن أشرح لها، كم احتجت من التمرد والجرأة لركوب دراجتي الهوائية لما بعد المرحلة الجامعية، وذلك فقط في إطار الحي الذي كنت أقطنه؟، وها هي تقود دراجتها بشكل طبيعي كوسيلة للتنقل!
كيف لي أن أشرح لها كم تَطلبني من الجرأة والتمرد، لأسافر وحيدة إلى أوروبا؟ أسافر من بلد يبني الحياة على ركائز "العيب"، ويقيس الأوقات على عقارب "الحرام". في بلدٍ يعتبرون زواج فلانة لفلان ابن فلان، "إنجاز"، ونجاح أخرى بعملها ودراستها وإهمالها الزواج، "عنوسة".
كيف لها أن تفهم إنجازاتي، عندما تكون عزوبيتي تحدٍ، وإرادتي ثورة.
انتهيت من كوب قهوتي، وغادرت المقهى.. والمكان. أنا الآن هنا.. ومع ابتسامة سبقتني، أخرجت من حقيبة يدي رواية أخرى، وهذه المرة كتبت على غلافها: ماذا سأنجز في سنواتي القادمة؟