بقلم الدكتور/ على إسماعيل درويش
مدرس النقد والأدب السياسي
بكلية اللغات والترجمة
بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا
كان ظهور الرئيس عبدالفتاح السيسي متسقاً مع اللحظة الفارقة والحرجة التي خرجت فيها الجموع المصرية باحثة عن رمز يلبي تطلعاتها الرافضة للممارسات السياسية والانحرافات الإدارية لحكومة جماعة الإخوان، واستجابة لهذا الشحن الجماهيري والحشد الشعبي كان انحياز الرئيس السيسي والقوات المسلحة إلى نبض الشارع المصري تناغماً مع تاريخ الجيش المصري، وارتكازاً على العقيدة الوطنية والدستورية للقوات المسلحة أنها جزء من الدولة وليست جزءاً من النظام، ووفقاً للمعطيات الدستورية والقانونية اضطلعت المؤسسات المصرية بالدور المنوط بها في إرساء قواعد سياسية عامة تصطبغ بالشرعية وتكافؤ الفرص لتجاوز الأخطار التي كادت تعصف بكيان الأمة، وتهدد وحدتها، وتضعف قوة نسيجها الاجتماعي، ومن ثم كان شهر يونيو 2014 تخطياً لحالة الانسداد السياسي، وبناءً جديداً لاستراتيجيات التواصل بين النظام والشعب، وفتحاً لدوائر الحركة العامة لضبط إيقاع الواقع المصري، وإعادة ترتيب الجبهة الداخلية، حيث بدا الرئيس المنتخب عبدالفتاح السيسي جسراً للعبور الحقيقي إلى بداية التحول للدولة الحديثة، جسراً يصل مصر بأشقائها العرب وحلفائها الدوليين، ويدعم ثقل مصر ودورها الرائد إقليمياً ودولياً لاستعادة مكانتها العريقة، وانفتاحها على العالم في ندية واحترام وشراكة واستقلالية للقرار الوطني، واعتصام بمبادئ الشرعية والقانون الدولي.
وفي إطار الحركة الدؤوبة تجاه المجتمع الدولي، استمدت الدبلوماسية المصرية زخماً إيجابياً من رؤية القيادة السياسية لواقع ومستقبل الأوضاع الدولية والإقليمية وتحديدها الواضح للأهداف، وتفاعلها المباشر على المستوى الرأسي مع القضايا المصرية والشرق أوسطية، لكون تحديد صانع القرار السياسي للأهداف والغايات التي تحكم تحركات السياسة الخارجية يعد أهم عناصر نجاحها، وأن محددات السياسة الخارجية لمصر لابد أن تتجوهر في إطار تحقيق مصالح الشعب المصري، حيث تحرك الرئيس السيسي في عدد من الدوائر التي تفرضها الطبيعة الجغرافية واعتبارات الهوية والأمن القومي، ينضاف إلى ذلك أن اختيارات مصر في علاقتها مع الدول العظمى تحكمها اعتبارات المصلحة المتبادلة تنموياً واقتصادياً وعسكرياً، بل إن الرئيس السيسي استغل سيولة النظام الدولي في تحقيق أكبر المكاسب الممكنة آخذاً في الاعتبار تحقيق التوازن والندية مع الدول والتكتلات الكبرى بإحداث بدائل في مراكز الثقل السياسي الدولي ، خاصة بعد موقف الولايات المتحدة الأمريكية من ثورة 2013، إذ كان الرئيس السيسي من اليقظة وتوقد الحس بدرجة مكنته من تعميق العلاقات المصرية الروسية على مستوى التسليح وتعاطي الرؤى السياسية والدبلوماسية في سياق التفاهمات العامة، خاصة وأن روسيا تطمح للعب دور الشريك المحوري والفاعل في إدارة الملف العربي والشرق أوسطي، وكانت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتن لمصر في عام 2015 صورة كاشفة لتهيئة المسرح المصري والعربي لإطلالة الوجه الروسي من جديد، وتعاطيه دوراً يجذر وجوده السياسي والجماهيري في مصر والمنطقة العربية، ففي أعقاب هذه الزيارة التي أُعد لها بشكل وافٍ، امتلأت الشوارع والميادين والكباري باللافتات وصور الرئيس الروسي، واحتشدت الجموع المصرية للترحيب به، الأمر الذي يعكس حفاوة دبلوماسية وشعبية بالوجود الروسي، خاصة وأن هناك حصاداً تاريخياً مشتركاً بين البلدين يحفظ شعلة الشراكة المصرية الروسية من الانطفاء، ويزيدها ألقاً وتوهجاً على خارطة المشهد السياسي الراهن.
وتصحيحاً للمسارات السياسية التي أوجدت فراغاً كبيراً في شبكة العلاقات المصرية الأفريقية توجه الرئيس السيسي بكل طاقاته لتعويض هذا الغياب مؤكداً بالواقع والدليل أن الانتماء للقارة الأفريقية في صدارة السياسية الخارجية لمصر، وأن التوجه نحو أفريقيا منظور ثابت ومستقر وصولاً إلى التضامن والأهداف المشتركة، وتمثلت سرعة العودة للمظلة الأفريقية بالمشاركة الأولى للسيسي في القمة 23 بغينيا الاستوائية عام 2014 إيذاناً ببدء عهد جديد من الصداقة والتعاون بين مصر وأشقائها في القارة السمراء، وفور انتخاب مصر عضواً غير دائم في مجلس الأمن بدعم واسع من الجمعية العامة، جاء تركيز مصر على دعم القضايا الأفريقية والدول النامية، وحرص مصر على إنهاء الانقسام بين دول حوض النيل وتجاوز حدة الاختلافات البينية، ولعل استرسال الجانب المصري في المفاوضات مع إثيوبيا، والتمسك بضبط النفس رغم استفزازات الجانب الإثيوبي واصطدامه السافر بالمعاهدات والقانون الدولي دليل مشهود على حرص القيادة المصرية على بناء جسور الثقة ودعم الأخوة وتحييد الآلة العسكرية في التعامل مع أي خلافات من أي جانب، وتفويت الفرصة على أي قوة معادية تسعى إلى استدراج مصر في أي عمل عسكري، بل إن طول النفس السياسي والدبلوماسي للرئيس السيسي حيال أزمة سد النهضة، والدفع بمنطق التفاوض والحل السلمي قد حقق نتائج باهرة في مردود الرأي العام العالمي, وضعفاً في الموقف الإثيوبي عالمياً, وإشادة من الخبراء السياسيين والدوليين بالوعي السياسي والتوازن النفسي والاستراتيجي في شخصية عبدالفتاح السيسي.
أما عن العلاقات المصرية الأوربية، فقد بدا الاتحاد الأوربي مرتبكاً تجاه التطورات في مصر بعد ثورة 2013، شأنه في ذلك شأن كثير من التكتلات الكبرى التي تتوجس خيفة من الانطلاقة المصرية ونهوضها الاقتصادي والسياسي حفاظاً على مصالحها في الشرق الأوسط مع بعض الدول التي لا تملك حق القبول أو الرفض إزاء أي موقف، أيضاً حتى لا تدين المنطقة كلها بالتبعية إلى مصر العاصمة الحضارية والسياسية للمنطقة بأسرها، لكن سرعان ما تغيرت فلسفة ومنهج الاتحاد الأوربي بعد تغول الإرهاب في مفاصل أوربا وانتعاش حركات التطرف، فكان لابد من وجود المعادل الموضوعي سياسياً وعسكرياً لاستئصال شأفة هذا الخطر الداهم وإخماد جذوته الحارقة التي تلتهم الإنسانية كلها، فكانت نظرة الاتحاد الأوربي إلى طلب الهدوء والتعايش السلمي على ضفتي البحر المتوسط، وتم تكثيف هذه المطالبات بعد الهجمات الشرسة على فرنسا، وتصاعد موجات العنف والصاخبة في الدول الأوربية، وشاء الله لمصر أن تتحمل عبء الدفاع عن العالم كله، فواجهت الإرهاب وحدها، وتكبدت خسائر فادحة في الأرواح والاقتصاديات على أرضها وخارج أرضها، وفضلت مصر بقيادة رئيسها الإنسان أن تعاني دون أن تفرط في ثوابتها السياسية والقيمية التي انفردت بها عن سائر الدنيا.
وقد شهدت العلاقات المصرية الأوربية كثيراً من التجاذبات والاشتباكات، خاصة بعد استدعاء الجانب المصري لسفراء الاتحاد الأوربي في القاهرة وإعلان رفضه الكامل للبيانات التي صدرت عن الاتحاد الأوربي بعد عام 2013، لكن سرعان ما حدث التقارب والتحول النوعي، ومرد ذلك إلى إطلاع الرئيس السيسي المجتمع الدولي وكافة منظماته على طبيعة الوضع الداخلي المصري بكل شفافية ووضوح، وقدرة السيسي على تغيير الموقف لصالح مصر، وذلك بعد خطابه المُركّز أمام الجمعية للأمم المتحدة، إذ أثمرت هذه النجاحات إتمام صفقة شراء مصر 24 طائرة رافال، و4 أسراب من فرنسا، و هي أكبر الصفقات العسكرية منذ سنوات بحيث بلغت نحو 5.2 مليار يورو، فضلاً عن جذب استثمارات جديدة مع ممثلي مجتمع الأعمال الفرنسي، بالإضافة إلى قطاعات الطاقة والطيران والدفاع والنقل والبنية التحتية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وحالياً تعمل في مصر نحو 140 شركة فرنسية في العديد من المجالات، على رأسها الطاقة والبنية الأساسية والسياحة والثقافة التي تعد أقوى الروابط الجامعة بين البلدين، وكانت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمصر ومن قبله رؤساء الاتحاد الأوربي تأكيداً على قوة التطابق في وجهات النظر, وفي هذا السياق نرى أن سلوك الدولة المصرية خارجياً منسجم مع فكر قيادتها السياسية ورغبتها الجادة في ممارسة أدوارها الفاعلة، ونفوذها المتمدد في ضوء ما يحيط بالمنطقة من أحداث لاهبة وتطورات متسارعة صاحبتها خطى مصرية وثابة وواثقة ورؤية متزنة وباصرة.
وقد كان لصدق وقوة تحركات السيسي تجاه العديد من القضايا، مثل قضايا الإرهاب والصراع في عدد من دول المنطقة مثل سوريا وليبيا واليمن والعراق أثره في اعتراف وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو بالخطأ الذي وقعت فيه الإدارة الأمريكية تجاه ما حدث في مصر والمنطقة، تزامن ذلك مع إيمان الرئيس السيسي بضرورة أن يكون لمصر موقف ثابت وواضح من الأحداث في المنطقة، حتى وإن اختلف ذلك مع الموقف الأمريكي نفسه، خاصة الموقف من القضية الفلسطينية، الموقف الذي تشدد عليه مصر وتعلن التزامها الدائم به, وهو إحلال السلام الشامل وإقامة حلم الدولتين لوقف نزيف الدم، والنهوض بالتسوية والتوصل إلى حل عادل وشامل يضمن حقوق الشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية وفقاً للمرجعيات الأممية والدولية، وإنفاذاً لقرار مجلس الأمن رقم 242 لسنة 1967.
وفي تقديري الشخصي أن الفكر السياسي للرئيس السيسي يتسم بالانفتاح والخصوصية والتميز، فهو لا يكرر استراتيجيات بالية ومستهلكة، حيث عانت السياسة الخارجية لمصر فترات طويلة وعصيبة من الاستقطاب المركزي الحاد، فهي إما أن تتجه بالكلية إلى المركزية الشرقية الروسية وإما إلى المركزية الغربية الأمريكية، لكن السيسي جاء ليطوي هذه الصفحة بما يعدد الاختيارات في الشراكة الدولية، ويخط بقلمه الواعد والمشرق سطوراً جديدة في صفحات السياسة المصرية الواعية، لتصبح مصر شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة، وفي الوقت ذاته تمتلك علاقات شديدة الخصوبة والتميز مع روسيا والصين والاتحاد الأوربي, وربما أكثر في بعض المجالات وفق علاقات قديمة يجددها الوعي بمواطن العمل السياسي الجاد ورسوخ العقيدة الوطنية، والإيمان المطلق بعراقة المركز المصري ونفاذه في وجدان الأمم والشعوب ثقافياً وحضارياً وسياسياً.