بقلم /دكتور حسن صابر
تطالعنا وكالات الأنباء العالمية كل دقيقة بأحدث أخبار وباء الكورونا الذي انتشر في دول العالم :
• عدد الاصابات
• عدد الحالات التي ماتت
• عدد الحالات التي شُفِيَت . .
تصدرت هذه الأنباء نشرات الأخبار في كل القنوات الفضائية . .
الأمر الخطير جداً في هذا الوباء العالمي هو أننا عاجزون عن مواجهة الفيروس ، ولا نملك حتى الآن سلاحاً فعالاً مناسباً لمواجهته . . كل ما نملكه هو إجراءات وقائية ، لنتجنب الإصابة بالفيروس . . تماماً كأن عدوٌ لنا يهاجمنا ، ونحن لا نملك أية امكانيات لمواجهته وخوض قتال معه ، فنضطر إلى الإختباء منه خلف هذه الإجراءات الوقائية . . مجرد اختباء لأننا أضعف منه ولا نستطيع مواجهته ، وأقصى نجاح يمكن أن نصل إليه ، هو أن نتوصل إلى إيجاد مصل للتطعيم ضد المرض ، لمنع اصابات جديدة ، وليس لعلاج حالات مريضة فعلاً بالفيروس . . لن تفلح كل الأسلحة الفتاكة التي يمتلكها الإنسان ويستخدمها للفتك بأخيه الإنسان في محاربة الفيروس والقضاء عليه . . مخلوق صغير متناهي في الصغر لا يُرَى بالعين المجردة ، ولا حتى بالميكروسكوب ، استطاع أن يقلب العالم رأساً على عقب ، ويشيع الفزع والرعب في كل دول العالم ، حتي في الدول التي ظنت أنها قوية بما تملكه من أسلحة فتاكة ، وتسبب هذا الفيروس في خسائر مالية بعشرات المليارات من الدولارات حتى الآن .
إقتصاد العالم يُشل ، والبورصات الكبرى تتهاوى ، أسعار النفط تسقط . . الأغنياء والفقراء يحبسون أنفاسهم خوفاً من الكورونا . تزاحم الناس لشراء السلع الاستهلاكية لتخزينها حتى اصبحت المتاجر خاوية بعد بيع كل ما فيها . . توقفت المسابقات الرياضية التي فيها تجمعات كبيرة للجماهير في أغلبية دول العالم . . خلت الشوارع من السيارات ومن المارة ، لأن الناس استجابت لنداءات السلطات الصحية بعدم الخروج الا في الأحوال الحرجة ، أغلقت المقاهي والملاهي ، عُطِلَت المدارس والجامعات . . بعض الحكومات والشركات الخاصة طلبت من الموظفين عدم الحضور لمكاتبهم والاكتفاء بالعمل من بيوتهم بواسطة الإنترنت . . الأطباء والممرضات في ايطاليا أرسلوا استغاثة يطلبون فيها المساعدة حيث أنهم لم يعد بإستطاعتهم وحدهم التعامل مع هذا العدد الكبير من المرضى . . توقفت حركة الطيران المدني ، وتعطلت القطارات ومترو الأنفاق ووسائل النقل العام ، تعطلت كل المسابقات الرياضية في دول وقارات العالم ، لزم الناس بيوتهم ولا يخرجون إلا في الحالات الضرورية خوفاً من العدوى . . الجيوش وقوى الأمن نزلت إلى الشوارع والميادين ، يحررون المخالفات للمارة الذين يتجولون دون ترخيص من الجهات الأمنية ، وأغلقت الحدود بين الدول . . غير أن أكثر المشاهد حزناً هى مشاهد الكعبة المنورة التي خلت من الطائفين والمصلين والرُكَّع السجود ، وكذلك المسجد النبوي الشريف ، كما توقفت صلاة الأحد وخطبة البابا في الفاتيكان .
الحكومات الغنية رصدت مليارات الدولارات لدعم الإقتصاد ، ولتعويض المتضررين . . ومازالت هناك الكثير من التداعيات والخسائر لهذا الوباء ، الذي أصاب كل دول العالم ، وعطّل فيها مظاهر الحياة . . بلغ عدد المصابين في كل أنحاء العالم 277,300 حتى لحظة كتابة هذه السطور ، تعافى منهم 91,994 ، وتوفى 11,431 ، وبالتأكيد فإن هذه الأرقام ستزيد بمرور الدقائق والساعات والأيام . . أكثر البلاد الأوروبية تضرراً من هذا الوباء هى إيطاليا التي تجاوزت الصين وأصبحت مقبرة كورونا الأولى في العالم .. بلغ عدد المصابين فيها 53 ألف شخصاً ، تعافى منهم 5,129 ، وتوفى منهم 2941 ، ويلاحظ أنه خلال ال 24 ساعة الأخيرة فقط ، توفى627 شخصاً في أسوأ حصيلة تسجل في العالم في يوم واحد بإيطاليا .
بدأ الوباء في الصين ، وبالتحديد في مدينة ووهان ، وقد أعلنت يوم 31 ديسمبر عام 2019 عن الإصابات بهذا الفيروس . . أي في اليوم الأخير من العام الذي أبى أن يودعنا إلا بعد نشر الفيروس ، والآن تراجعت الإصابات ، حتى أنه في اليومين الأخيرين لم تسجل حالات جديدة ، مما يعد أول نجاح في مقاومة الفيروس على مستوى العالم . . لكن ماذا يُقصَد بهذا النجاح ؟ هل توصلت الصين إلى علاج للفيروس ؟ بالطبع لا ؛ فالفيروسات لا علاج لها ، بعكس البكتيريا التي يمكن علاجها بالمضادات الحيوية . . النجاح الذي وصلت إليه الصين يعني فقط نجاح الوسائل الوقائية التي إتبعتها في تقليل عدد الإصابات ، لكنها لم تتوصل حتى الآن إلى علاج حاسم لفيروس كورونا ، بل حتى لم تتوصل إلى لقاح للوقاية من المرض . . وحسب منظمة الصحة العالمية WHO ، لا يوجد حالياً علاج أو حتى لقاح في أية دولة بالعالم ، والمتوقع أن يطرح اللقاح للإستخدام في نهاية هذا العام ، وما يتم تداوله هذه الأيام من لقاح يستخدم في الصين ، هو مجرد تجارب سريرية ، لم تتأكد بعد فاعليتها ، تهدف إلى تقوية جهاز المناعة في جسم الإنسان ، وتكوين أجسام مضادة antibodies في الدم ، تنقض على الفيروس وتشل حركته أو تقضى عليه ، ومعنى ذلك أنه لا علاج من الفيروس ، وبالتالي لا علاج حاسم للإصابات التي حدثت بالفعل ، فقط معالجة أعراض المرض وتقوية الجهاز المناعي لجسم الإنسان في محاولة لإنقاذ المريض من الموت . . وقد علمت أن علماء فرنسا أكدوا أن عقار هيدروكسي كلوروكين الذي يعالج الملاريا ثبت أنه علاج جيد ضد هذا الفيروس ، ولهذا أنتجت شركة سانوفي Sanofi الفرنسية للأدوية 300 مليون حبة من هذا العقار ، كما أن الرئيس ترامب أشار الى أن أمريكا قامت بإجراء تجارب على نفس العقار ، وكانت النتائج مشجعة جداً . . غير أنه لا توجد مصادر علمية طبية أكدت هذا الخبر حتى الآن .
خسائر اقتصادية فادحة أصابت الاقتصاد العالمي ، كذلك أصابت إقتصاد الدول العربية . . تقرير الـلجنة الإقتصادية والإجتماعية لغرب آسيا (إسكوا ESCWA) التابعة للأمم المتحدة ، تضمن الخسائر المتوقعة في المنطقة العربية بسبب كورونا 2020 والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
- توقعات بتراجع الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية بـ 42 مليار دولار
- توقعات بخسارة 1.7 مليون وظيفة
- توقعات بارتفاع معدل البطالة بـ 1.2%
- خسرت المنطقة 11 مليار دولار من ايراداتها النفطية بين يناير ومنتصف مارس 2020 .
كورونا حطمت جبروتنا ، وأظهرت مدى ضعفنا وسخفنا وضحالتنا وقلة حيلتنا . . فيروس صغير حطم جبروت الإنسان ، وجعل من حضارة إنسانية عمرها سبعة آلاف عام مجرد أضحوكة . . كم كذبنا على أنفسنا وعلى بعضنا ، وكم سرق غنيُّنا فقيرَنا ، كم تفاخرنا بألقابٍ زائفة ، وكم رأينا أننا الأصلح والأذكى والأقوى من بين جميع الكائنات . . لكننا نبدو اليوم كائنات هشة بائسة تثير الشفقة .
• أين دول العشرين إذن ؟
• أين العالم الأول ؟
• أين جبروت أميركا وأوربا ، والروس والصين ، واليابان ؟
• أين الجامعات ، ومراكز الأبحاث ؟
• وأين أبطال نوبل ؟
لكن هل يعني ذلك أن العالم أصبح على حافة الهاوية ؟ بالطبع لا . . وباء كورونا ليس أخطر الأوبئة التي تعرض لها البشر ، فهناك أوبئة الطاعون Plague ، والكوليرا Cholera ، والجذام Leprosy . . أوبئة قتلت الملايين من البشر . . كما أن وباء الجدري Smallpox قد سبب تشوه الملايين من البشر أيضاً .
الشك والريبة والخوف والقلق تسيطر على حواسنا ، فيتعطل الدماغ عن التفكير السليم . . لم يكن ذلك بسبب حرب نووية ، ولا مهاجمة كائنات فضائية لكوكبنا ، إنما بسبب فيروس صغير ؛ فيروس يجعل من الدبابات ، وأسراب الطائرات ، وأحدث أنواع الرادارات مجرد آلات غبية ، لا تصد هجوماً ، ولا تهدد عدواً .
على مدى القرون الماضية خضنا عدداً كبيراً من الحروب ، وكنّا نرغب بتحطيم الآخر ، وقطع نسله إلى الأبد ؛ حروب دينية ، غزوات ، ومؤامرات ، وانتهاك لحرمة دم الإنسان ؛ صراعات ومهاترات ، حربان عالميتان ، وحربٌ باردة ، ضغوط على الشعوب الضعيفة ، وابتزاز للأمم الفقيرة . . أنهار من الدماء ، وجيوشٌ من الأيتام والأرامل ، والجرحى ، والمعاقين ، وكبار السن الذين لا مأوى لهم ، والأطفال الذين يئنون من آلام المجاعة ؛ كل ذلك بسبب طمع الإنسان وجشعه ، ونزعته لظلم الآخر ، وسلب ما لديه ؛ ليس على مستوى الدول فقط ؛ بل أيضاً على مستوى الأفراد والجماعات . . صار الوضع خطيراً ، وأصبحَ كل كبيرٍ صغير ، وكل قويٍ ضعيف ، وكل غنيٍ فقير .
اليوم تتعاون الحكومات والهيئات العلمية في مقاومة الوباء القاتل ، فلماذا لم نتعاون من قبل ؟ وهل سيستمر ذلك التعاون بعد أن ننتصر على هذا الفيروس ، ونتوصل الى العلاج المناسب للمرضى ، وننتج المصل الذي يوفر لنا الوقاية والمناعة ؟ لا لن يحدث ، وسيعود الإنسان إلى طغيانه وجبروته ، فالأوبئة الخطيرة والكوارث التي حدثت من قبل والتي كانت أخطر من هذا الوباء ، لم تهذب سلوك الانسان ، ولم تنزع عنه طمعه وعدوانيته ، فلماذا ينجح هذا الوباء فيما فشلت فيه الأوبئة الأخطر ؟ إنها الطبيعة البشرية التي عجزت الديانات والأخلاقيات عن تغييرها ، وتخليصها من النزعة العدوانية ومن الغرور والتكبر وظلم الآخرين ، وستستمر هكذا إلى يوم اللقاء . . لقاء رب العالمين .
مشهد حزين لم أكن أتوقع أن أراه طوال حياتي ، ولا تمنيت ذلك . . الكعبة خالية من الطائفين والمصلين والرُكَّع السجود