الجمعة, 17 مايو, 2024 , 12:18 م

دكتور حسن صابر يكتب عن الذهب الأخضر

د. حسن صابر

أذكر من حوالي خمسة وعشرين عامآ تصريحآ لرجلين من أعظم رجال الخارجية المصرية أولهما كان الدكتور بطرس غالي وزير الدولة للشئون الخارجية أيام الرئيس السادات ، ثم أمين عام الأمم المتحدة بعد ذلك ، والثاني كان الدكتور أسامة الباز وكيل أول وزارة الخارجية ، والمستشار السياسي لرئيس الجمهورية ، وكان التصريح أن الحروب القادمة في العالم ، وخاصة في أفريقيا وآسيا ستكون بسبب التنازع على المياه ، وما نراه هذه الأيام من تهديدات سدود إثيوبيا للحياة في مصر هو أكبر دليل على صحة توقعات الرجلين ، ووضوح الرؤية المستقبلية عندهما .

وأعود بكم إلى موضوع المقال ، فالمعروف أن الذهب من حيث التركيب الكيميائي هو أندر العناصر على سطح الأرض ، وأصبح بالفعل أسطورة مليئة بالأسرار في كنز الإنسانية المجهول ، وإستخدم ” الذهب الأصفر ” في صناعة الحلى والمجوهرات وغيرها من المشغولات الذهبية الأخرى ، كما إستخدم كعملة عالمية لتسديد الديون حتى نهاية العقد الثالث من القرن العشرين ، وكانت غالبية دول العالم تتعامل مع ما يسمى ” قاعدة الذهب ” لضمان إستقرارها ، وهذا يعني من الناحية الإقتصادية إمكانية الحصول على أي كمية من الذهب مقابل العملات الورقية التي تصدر عن مصرف أو خزانة قومية ، ثم تم التخلي عن هذه القاعدة في الوقت الراهن ، وإستخدم الذهب الأصفر كوسيلة لقياس العملة ، أو كإحتياطي نقدي .

ثم شهد عصر الاستعمار التقليدي من بداية القرن السابع عشر ظهور القطن ” الذهب الأبيض ” كعامل مؤثر في الاقتصاد العالمي وكمنافس للذهب الأصفر كعملة عالمية في السوق الدولية ، ويحدثنا التاريخ كيف تم جلب آلاف العاملين من إفريقيا لزراعة القطن في المزارع العملاقة في الولايات الجنوبية من القارة الجديدة التي تم استكشافها ” أمريكا ” وكيف قامت الدول الاستعمارية خاصة بريطانيا العظمى ، بتكثيف زراعة القطن في مستعمراتها في آسيا “الهند وباكستان” وإفريقيا “مصر والسودان” من أجل تشغيل مصانعها في يوركشاير وغيرها لإنتاج المصنوعات القطنية الممتازة وتصديرها إلى أنحاء العالم كافة ، ولعل الفيلم الأمريكي الذي حصل على العديد من جوائز الأوسكار هذا العام وهو فيلم ” 12 عامآ عبدآ ” ومنها جائزة أحسن فيلم هو خير معبر عن هذه المرحلة .

وفي مرحلة لاحقة ومع نهاية القرن التاسع عشر كانت بداية النهاية لعصر الذهب الأبيض بعد ظهور النفط وإنفجاره من باطن الأرض في العديد من الدول في قارات العالم ، وفقد الذهب الأبيض تدريجياً أهميته كمنتج طبيعي بعد التوسع في إنتاج الألياف الصناعية ، حتى إن الإنتاج العالمي الحالي من المشغولات القطنية لا يزيد على 100 مليون بالة أي أقل من 22 مليون طن ، ولا شك أننا نعيش حالياً في عصر النفط ” الذهب الأسود ” وهو أحد أهم مصادر الطاقة اللازمة للبشرية ويتم إستخدام المنتوجات البتروكيماوية في كل شيء ، بدءا من الملبس إلى الدواء إلى توليد الكهرباء إلى إنتاج المياه المحلاة إلى الاستخدامات المنزلية إلى الأثاث ، ناهيك عن استخداماته المتعددة في كافة الصناعات والتجهيزات الأساسية الأخرى ، ويكفي للدلالة على ذلك أن نعلم أن إجمالي الطلب العالمي على النفط – وطبقاً لتقرير من إدارة معلومات الطاقة الدولية الصادر في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005 وبعض التقارير الدولية الأخرى – قد بلغ نحو 83 مليون برميل يومياً من النفط الخام وما يزيد على 95 تريليون قدم مكعب سنويا من الغاز الطبيعي ، في الوقت الذي إرتفع الاحتياطي العالمي المؤكد من النفط الخام إلى ما يزيد على 1270 مليار برميل ومن الغاز الطبيعي إلى 6.1 مليون تريليون قدم مكعب ، وهذا الاحتياطي يكفي لتغطية الطلب العالمي وحسب معدلات الطلب الحالي وبفرض عدم وجود استكشافات جديدة لزيادة حجم الاحتياطي إلى مدة لا تزيد على 34 عاماً لنضوب النفط ، و 55 عاماً لنضوب الغاز الطبيعي من باطن الأرض . وفي سنة 1970 قام الرئيس ريتشارد نيكسون رئيس الولايات المتحدة بزيارة السعودية وقابل الملك فيصل بن عبد العزيز ، وإتفقا على ما يسمى البترو دولار ، وتم إستخدامه كعملة ، وليس سرآ أن أحد أسباب الحرب الأمريكية على العراق هو أن الرئيس صدام حسين إستبدل الدولار باليورو كعملة متحدة لشراء البترول ، فغضبت آمريكا غضبآ كبيرآ ، وشنت عليها حربين .

وهنا يأتي السؤال ماذا بعد أن إنتهى دور الذهب الأصفر والذهب الأبيض ، والتوقع المرتقب لانتهاء دور الذهب الأسود في هذا القرن الحالي كعملات عالمية قابلة للتداول ، يرى كثير من المراقبين والعلماء والاقتصاديين أن العصر القادم هو عصر المياه ” الذهب الأخضر ” خاصة مع ظهور مصطلح جديد على الساحة الاقتصادية عما يسمى تجارة المياه الافتراضية ، وهي تلك المياه المتضمنة أو المنطمرة في السلع الغذائية والمنتجات الحيوانية والصناعية وغيرها والتي يتم تصديرها من منتجات الدول الغنية مائياً إلى دول أخرى تفتقر إلى الموارد المائية ، ومن نافلة القول أن نقرر أن جميع الدول دون استثناء تتعامل بدرجة ما مع تجارة المياه الافتراضية سواء بالتصدير أو الاستيراد، ولكن القضية تكمن في التوازن بين حجم المياه الافتراضية المصدرة مقارنة بحجم المياه الافتراضية المستوردة بما يحقق فائضاً أو عجزاً في الميزان المائي والذي يحكمه توافر المياه ونوع المنتج المصدر أو المستورد، ولقد تمت مناقشة هذا الموضوع في المنتدى العالمي الثالث للمياه الذي انعقد في دلفت – هولندا – عام 2003 ، وأكد وجود دول يتجاوز حجم المياه الافتراضية المصدرة حجم المياه الافتراضية المستوردة بدرجة كبيرة ، مثل الولايات المتحدة الأمريكية 169 مليار متر مكعب ، والبرازيل 57 مليار متر مكعب ، والأرجنتين 66 مليار متر مكعب ، وفرنسا 48 مليار متر مكعب ، فيما تعاني دول أخرى من تجاوز حجم المياه الافتراضية المستوردة ، حجم المياه الافتراضية المصدرة ، مثل الصين 58 مليار متر مكعب ، المكسيك 49 مليار متر مكعب ، وروسيا 45 مليار متر مكعب ، مصر 22 مليار متر مكعب .

ولمزيد من التوضيح عن مصطلح المياه الإفتراضية فتعرف بأنها كمية المياه المستخدمة لإنتاج محصول زراعي أو منتج صناعي، فعلى سبيل المثال تدل المتوسطات العالمية على أن إنتاج كيلو جرام واحد من الحبوب يحتاج 1.5 متر مكعب من الماء ( أو بمعنى آخر لإنتاج طن من الحبوب نحتاج 1500 طن من المياه ) ، كما يحتاج إنتاج لتر واحد من الحليب حوالي متر مكعب من المياه ولكيلو غرام من الجبنة أكثر من 5 أمتار مكعبة مياه ، ولذلك فإن الدول التي تصدر المحاصيل التي تحتاج في إنتاجها المياه بكثافة فإنها فعلياً تصدر المياه التي استخدمت في إنتاج هذه المحاصيل ، أي أن هذه الدول تساند بشكل غير مباشر الدول المستوردة لهذه المحاصيل في إحتياجاتها المائية ، إذ أنه من شبه المستحيل الإتجار في المياه نفسها بين الدول بشكل مباشر بسبب الظروف السياسية والكلفة الإقتصادية المصاحبة لنقل المياه ، إلا أن الإتجار بالمحاصيل والمنتجات كثيفة الإستخدام للمياه ممكن وعملي، وهذا الاتجار في السلع الغذائية شائع بين مناطق العالم المختلفة منذ آلاف السنين. ولذلك فإنه بإمكان الدول شحيحة الموارد المائية أن ترشد مياهها المستخدمة في القطاع الزراعي وأن توفر كميات كبيرة منها من خلال استيراد المحاصيل ذات الاستهلاك العالي للمياه بدلاً من إنتاجها محلياً، وذلك تماشياً مع نظرية التجارة الدولية ” على الدول أن تصدر المنتجات التي تمتلك فيها الميزة النسبية أو المقارنة في عملية إنتاجها، وأن تستورد المنتجات التي لا تمتلك هذه الميزة في إنتاجها ” والخلاصة هى أن إستخدام المياه ” الذهب الأخضر ” كعملة عالمية قابلة للتداول وارد قبل انتهاء هذا القرن ، وأن إستخدامها كورقة ضغط سياسي وإقتصادي مرجح كما هو في حالة سدود إثيوبيا ، خاصة في ظل نقص الموارد المائية المتاحة ، ومقابل تزايد الطلب عليها لتلبية جميع الأغراض الحياتية المختلفة

اترك رد

%d