بقلم د. حسن صابر
منذ عدة سنوات كنت في طريق عودتي من أبو ظبي إلى دبي ، فإستوقفني شاب وقف على جانب الطريق . . فهمت أنه يرغب في الذهاب معي إلى دبي ، فرحبت به وقلت له تفضل ، وبعد صعوده للسيارة قدم لي نفسه على أنه مدرس ٌ جاء لدولة الإمارات منتدبآ لتدريس اللغة العربية في إحدى المدارس ، وعندما ناقشته في اللغة العربية وجدت أنني أحاور مشروع مدرس فاشل لا يعرف الكثير من قواعد هذه اللغة ، والمفروض أنه سيعلمها للطالبات والطلبة ، من فرط ضيقي به أوقفت سيارتي وقلت له تصورت أنك ستدرس اللغة العربية لإبنتي ولإبني ولزملائهما . . إنها جريمة ترتكب في حقهم . . طلبت منه مغادرة السيارة ، وتركته واقفاً في الصحراء التي تفصل بين أبوظبي ودبي ، لكن قليلآ من الرحمة جعلتني أعود اليه ، وآسمح له بالصعود إلى السيارة مرة أخرى . . وبقينا صامتين حتى وصلنا دبي ، وودعته بعد أن نصحته أن يبدأ دراسة اللغة العربية من جديد وبطريقة صحيحة .
بعد أن غادر هذا الشاب سيارتي ، كدت أصرخ متسائلاً : ألا توجد هيئة قومية تدافع عن اللغة العربية ، ويتصدى أعضاؤها لكل الكوارث التي حلَّت بهذه اللغة . . أين الأزهر الشريف ؟ وأين أقسام اللغة العربية في جامعة الأزهر وفي بقية الجامعات ألا يشعرون بالغيرة على لغتهم ؟
أيقبلون المهانة التي حلت بهذه اللغة – لغة القرآن – والتي بدأت منذ عام 1952 ، وتتصاعد حدتها حتى الآن ؟
مهمة المعلم أن يزرع الصحراء ، لا ان يقتلع الحشائش الضارة من الحقول . . لكننا في هذا الزمن ، للأسف الشديد ، أصبح المحافظ على قواعد اللغة العربية كالقابض على جمرة متقدة . . تغربت اللغة العربية على أرضها وبين أهلها ، لم نعد نسمع لغةً صحيحةً إلا من علماء الدين وبعض قارئي النشرة الإخبارية . . في السنوات الماضية كان مجمع اللغة العربية يضم بين أعضائه أطباء متميزين ، ورجال قانون ، وسياسيين ، واليوم عندما يتكلم رجل السياسة ، أو ينطق قاضي بالحكم ، أو يقدم محامي مرافعة ، أشعر بالغثيان مما أسمع . . ليتهم يعرفون أن التعليم هو المفتاح الذهبي لباب الحرية ، كما أن التعليم قضية محورية في سبيل الديمقراطية ؛ فالديمقراطية في يد الجهلاء لن يحركها ألا العوز و الفقر .
لا يمكن أن أنسى الفضيحة التي حدثت عندما تولى مستشار قضائي مشهور رئاسة لجنة الإشراف على أحد الاستفتاءات الكثيرة في مصر ، وبعد إنتهاء عملية الإستفتاء ، تولَّى نفس المستشار اعلان نتيجة الاستفتاء . . لا أتذكر لماذا تحدث عن السلطان قطز ؟ وما هى علاقة قُطُز بنتيجة الاستفتاء ؟ لكن هل من المعقول أن رجلاً في مكانة هذا المستشار لا يعرف أن نطق السلطان قُطُز يكون بضم القاف وضم الطاء ، فنطقها بفتح القاف ، وفتح الطاء : ( قَطَز ) ، حينئذ تصاعدت من القاعة بعضٌ من أصوات الحاضرين مستنكرةً . . أعاد المستشار الفضيحة نطق قُطُز بكسرها : ( قِطِز ) ، وإنقاذاً للوقت إضْطُّرَ الحاضرون إلى المجاهرة بنطق الكلمة وقالوا له ( قُُطُزْ ) بضم القاف وضم الطاء .
والحقيقة أن هذا المستشار ليس متفردآ في الجهل باللغة العربية . . لكنه وباء أصاب كل المثقفين والسياسيين في مصر بدرجة خطيرة ، وفي بقية البلدان العربية بدرجةٍ أقل من مصر . . أصاب الطالبات والطلاب ، وأصبحنا لا نسمع لغةً عربية صحيحةً إلا من خلال علماء الأزهر ورجال الدين . . هذه كارثة كبيرة من ضمن كوارثنا العديدة ، وكم أحزن عندما أسمع رؤساء النيابة والمحامين والقضاة يقرأون مرافعات وأحكام بلغة لا تمت إلى العربية بأية صلة ، وأتمنى أن يوجد نص في القانون يبطل أيًّ حكمٍ يقرأه القاضي أمام المتهم قراءةً زاخرةً بالأخطاء اللُغَويَّة . . نصٌ يعيد القضية إلى المحاكمة من جديد ، ذلك لأن القاضي لم ينطق الحكم بلغةٍ عربية صحيحة ، مما قد يتسبب في تغيُّر فهم الحكم للمعنيين بالقضية .
كذلك لا أنسى أن دولة الإمارات العربية المتحدة أرسلت منذ عدة سنوات وفداً إلى الأزهر ، لإختيار مائة داعيةٍ يعملون أئمة في مساجدها ، فتقدم للإمتحان الذي عقد في إحدى كليات الأزهر ثلاثمائة خريجٍ ، منهم مائة من الحاصلين على درجة الماجستير . . هل تتصوروا كم كانت نسبة النجاح . . كانت صفر بالمائة !! أي لم ينجح أحد من الثلاثمائة أزهري الذين تقدموا للإمتحان . . فأية كارثة هذه ؟
عندما أبحر في مواقع التواصل الإجتماعي مثل فيسبوك وتويتر أدرك حجمَ المشكلة وعُمْقَها ، وعندما أقرأ كتاباتًٍ من شخصيات تنتمي إلى ثقافات ومستويات تعليمية وإجتماعية مختلفة ؛ أدرك أنها لا تعرف إلا القليل من قواعد اللغة العربية والإملاء . . لا تتعجبوا عندما أقول الإملاء لأني وجدت الكثيرات والكثيرين لا يعرفون التفريق بين الذال والزين مثل كلمة ” أعتذر” فيكتبونها ” أعتزر” ، ولا يعرفون مثلاً أن عبارة ” إن شاء الله ” يجب ان تكتب كما كتبتها هنا وليس كما يكتبها البعض ” إنشاء الله ” ، كذلك فإن الهمزة هى المعضلة الكبرى . . متى تكتب الهمزة على السطر ، ومتى تكتب على الواو ، ومتى تكتب فوق الياء ، فلا أجد الا القليل جداً ممن يعرفون قواعد كتابتها . . كذلك فإن الكثيرين لا يعرفون التفريق بين الثاء والسين في كتابة بعض الكلمات أو نطقها ، ولا يعرفون أن جمع المذكر السالم يُرْفع بالواو ويُنْصَب ويُجَر بالياء فيقولون مثلاً ( ذهب المشيعين إلى الجنازة ) والصحيح الذي يجب أن يتعلموه ويعرفوه ( ذهب المُشيِّعُوُن إلى الجنازة ) .
( الجزء الثاني يتبع لاحقاً )