الجمعة, 22 نوفمبر, 2024 , 2:14 ص

المظاهرات الفرنسية درس للشعوب العربية


بقلم دكتور / حسن صابر

توجه الرئيس ماكرون بصحبة وزير الداخلية الفرنسي لمصافحة أحد جنود الشرطة الذين تصدوا للمظاهرات في جادة الشانزليزيه ، وقال له : أشكرك على جهودك لحفظ الأمن في شوارع فرنسا . . فرد عليه الشرطي هذا واجبي يا سيادة الرئيس ، لكن لا أخفيك فأنا أتعاطف مع المتظاهرين حيث أعاني مثلهم من إرتفاع الأسعار وقلة الدخل وزيادة الضرائب ، وقد فرض عليَّ واجبي أن أتصدى لهم وأقمع مظاهراتهم ، فخلق هذا الوضع بداخلي شعوراً بالتناقض لا يريحني . . فتلعثم الرئيس الفرنسي ، وإحمر وجه وزير الداخلية خجلاً . . ولاشك أن هذه الواقعة دفعت الرئيس ماكرون ورئيس وزرائه أن يفكرا بعمق وبموضوعية في هذه الأحداث دون مكابرة ، وأن يحسبا بدقة المضاعفات التي ستترتب عليها ، وربما تساءل كل المسئولين الفرنسيين سؤالاً هاماً :

هل هى مجرد مظاهرات بسبب الضرائب ، أم ثورة شعبية إنفجرت بعد كبت طويل للغضب ، ومعاناة قاسية مع إرتفاع الأسعار منذ تولى ماكرون مسئوليات الرئاسة ؟

كما تساءلت كل الأنظمة الأوروبية سؤالاً أكثر أهمية : هل بدأت ثورات الربيع الأوروبي ؟

إن ظاهرة الثورات الشعبية كادت أن تختفي من العالم بعد أن تبين للشعوب أن أضرارها أكثر وأعمق من مكاسبها ، والخاسر الأكبر يكون هو البلد الذي نشبت فيه الثورة . . إلا أن القوى الداخلية والخارجية التي تستفيد من هذه الثورات عادت أصابعها الخفية لإشعالها من جديد في المناطق المستهدفة لحدوث عدم الإستقرار ، فتفجرت المظاهرات الدامية والثورات الشعبية في العراق وسوريا وليبيا وتونس ومصر واليمن ، وأحدثت الكثير من الخسائر، ولم تتحسن أحوال شعوب هذه الدول بل ساءت أكثر مما كانت قبل الثورات . . تراكمت عليها الديون ، وكل ما حصلت عليه الشعوب هو تغيير حكامها في كل هذه الدول ، ماعدا في سوريا التي مازال رئيسها يقاوم حتى الآن مدعوماً من روسيا وإيران . . دُمِّرَتْ سوريا ، وتحولت إلى أطلال يدافع عنها الجيش السوري المؤيد للرئيس ، وتحتاج إلى مئات المليارات من الدولارات لإعادة بنائها من جديد بعد توقف الحرب . . حتى الدول التي تخلصت من رئيسها ليست أحسن حالاً من سوريا ، فمازالت الحرب مشتعلة في ليبيا واليمن والعراق . ومصر أيضاً تخلصت من رئيسها الذي حكمها ثلاثين عاماً ، لكن الشعب المصري عانى كثيراً في فترة حكم الإخوان المسلمين ، ثم يعاني الآن من الغلاء الفاحش في الأسعار ، وتدني الصحة والتعليم ، وتراكمت الديون الخارجية إلى إثنين وثمانين 82 مليار دولار ، بينما بلغ الدين الداخلي 1.3 تريليون جنيه مصري مما ينذر بمخاطر كبيرة  . . فماذا فعلت ثورات الربيع العربي غير الخراب والدمار في الدول العربية ؟

لا أعتقد أن مظاهرات فرنسا ستتحول إلى ثورة عارمة تدمر كل شئ فيها ، فالمتظاهرون الفرنسيون أصحاب السترات الصفراء ربما يكونون أكثر وعياً من غوغائية الشعوب العربية ، كما أن الرئيس ماكرون والحكومة الفرنسية إستجابوا بالتدريج لمطالب الجماهير وإتبعوا الخطوات الآتية :

– تخفيف القمع الأمني للجماهير في شوارع وميادين فرنسا
– تعليق الضرائب التي كانت هى السبب في الإنفجار الجماهيري لمدة ستة 6 شهور
– ثم إلغاء هذه الضرائب
– ثم الخطاب المتلفز للرئيس ماكرون بعد 48 ساعة من وقوع اشتباكات في الشوارع بين المحتجين والشرطة في باريس وقيام المحتجين بإطلاق مقذوفات وحرق سيارات ونهب متاجر . . أعلن في خطابه إلغاء الضريبة عن الساعات الإضافية في محاولة لرفع القدرة الشرائية لدى الفرنسيين ، كما أعلن أيضا إلغاء الزيادة الأخيرة على ضرائب التأمين الاجتماعي لأرباب المعاشات الذين يتقاضون أقل من ألفي يورو ، وقال أيضاً أن الحد الأدنى للأجور سيزيد 100 يورو شهريا ابتداء من 2019 دون تكاليف إضافية على أصحاب العمل . . في نفس الوقت أكد ماكرون أنه سيلتزم بأجندته الإصلاحية ورفض إعادة فرض ضريبة على الثروة .

يواجه ماكرون مهمة صعبة وهي إقناع الطبقة المتوسطة والعمال بأنه يستمع إلى غضبهم بشأن الضغوط على النفقات الأسرية مع حرصه في الوقت نفسه على تفادي اتهامه بالخضوع لسياسة احتجاجات الشوارع . . هذه الإجراءات التي اتخذها الرئيس ستكلف الخزانة ما بين 8 -10 مليارات يورو .

وبلاشك فإن هناك قوى داخلية وخارجية إستغلت الغضب الشعبي والمظاهرات ، وإندسوا بين صفوف الجماهير لتحفيزهم على تدمير وحرق وسرقة المحلات في شوارع وميادين فرنسا ، وقد إعترف بذلك قادة حركة أصحاب السترات الصفراء . . كلٌ يعمل على تنفيذ أجندته ، فاليمين المحافظ المتطرف لا ينسى هزيمة زعيمتهم ” ماري لوبان ” أمام الرئيس ماكرون في الإنتخابات الرئاسية منذ 18 شهراً ، ويعملون على إزاحة الرئيس وإحلال زعيمتهم مكانه ، وهى التي كانت قد أعلنت أنها ستخرج فرنسا من دولة الإتحاد الأوروبي . . كذلك فإن أمريكا لا تستريح للرئيس ماكرون ، وتتمنى لو أن فرنسا تلحق ببريطانيا وتنفصل عن دولة الإتحاد الأوروبي ، وبالطبع لو حدث ذلك فإنه سيكون إنهياراً مؤكداً لهذا الإتحاد ، وهذا لن يحدث إلا إذا تخلصوا من الرئيس ماكرون ، ولا ينسى الرئيس ترامب مطالبة ماكرون بضرورة إنشاء جيش أوروبي موحد ، وإعتبر هذا الموقف تهديداً لوجود حلف الأطلنطي الذي تتزعمه أمريكا .

الشعب الفرنسي يحترم العمل ويقدسه ، ولهذا هم يتظاهرون يوماً واحداً في الأسبوع وهو يوم السبت العطلة الأسبوعية لهم ، بينما المتظاهرون المصريون خلال أحداث 25 يناير عام 2011 إستوطنوا ميدان التحرير ، ونصبوا الخيم ليناموا فيها وليستريحوا ويدخنوا . . تركوا أعمالهم وبقوا عدة أسابيع خارج بيوتهم حتى إنهارت الأحوال الإقتصادية في مصر ، وأغلقت المصانع ، وتراكمت الديون على مصر ، ويكفي أن إثيوبيا لم تتجرأ على بناء سد النهضة إلا بعد مظاهرات 25 يناير وإنهيار الدولة في مصر ، فإستغلت هذه الأوضاع الكارثية ، وشرعت في تنفيذ السد الذي سيهدد حياة المصريين ، وربما يعتقد البعض أن الأعداد الهائلة من المتظاهرين الفرنسيين هم من العاطلين عن العمل ، لكن هذا غير صحيح ، وإلا فلماذا كانت مظاهراتهم يوم العطلة الأسبوعية فقط ؟ وهناك أعداد قليلة من أصحاب السترة الصفراء الذين يتجمعون خلال أيام الأسبوع ، لكن المظاهرات الكبيرة لا تحدث إلا يوم السبت من كل أسبوع فقط . . أعترف بأنها مقارنة غير منصفة فهناك فارق كبير بين الشعب الفرنسي والشعوب العربية . .

الغضب يستمر فقط مع الجهلة ، مما يتسبب في أن يفقدون كل سلطان على أنفسهم ، وتتحول مظاهراتهم إلى ثورات تشعل النيران لتحرق كل جميل بأوطانهم

وتعد المظاهرات من أنواع التعبير عن الرأي الذي تكفله القوانين الدولية ، طالما أنه يتم بطريقة صحيحة وقانونية وبعيدة عن استخدام الأسلحة ، أو أية مواد مؤذية ، كذلك تعتبر المظاهرات السلمية من الحقوق الإنسانية التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة ، والذي يضمن حق التظاهر للإنسان ، سواءً بالكتابة ، أو بالكلام ، أو بأية وسيلة لا تسبب الأذى للمجتمع المحيط بالمظاهرات ، كما أن حق التظاهر منصوص عليه في مواثيق حقوق الإنسان الدولية كحق أساسي ، وهو جزء من حق «التعبير عن الرأي» ، وأيضاً جزء من حق «المشاركة السياسية» . . وسببُ إعتباره حقٌ ليس إيماناً بأن الإنسان يولد به ، بل سببه تطورات سياسية شهدتها أوروبا منذ القرن الثالث عشر منها الميثاق الكبير في بريطانيا الذي قيّد حقوق الملك وزوّد حقوق المواطن ، ومع الثورة الفرنسية تكرر الأمر بصورة أوضح ، عند ولادة ميثاق حقوق الإنسان والمواطن سنة 1789، والذي أعطى حقوق أوسع للمواطن منها «حقوق التعبير»، كما تكرر في ثورات أخرى (منها إعلان الولايات المتحدة الأمريكية) مما أعطى حق التظاهر اليوم صبغة عالمية .

مع ذلك كله ، فإن الشعب الفرنسي رفض مبادرة الرئيس ماكرون ، ومازالوا يطلبون المزيد ، فهل سيكون غداً السبت يوم الحسم ؟ أم أن هذه المظاهرات ستمتد إلى بلجيكا وهولندا ودول أوروبية أخرى ؟

اترك رد

%d