كتب: عمر محيسن
لا يتبادر إلى الذهن في ذكرى ميلاد راسبوتين، تلك الشخصية المحيرة في التاريخ الروسي، غير ذلك التناقض بين صفته كراهب واسمه المرتبط بأفعاله البذيئة، التي ما انفك عن ممارساتها طوال حياته، والتي كانت سببًا أصيلًا في نجاح المكيدة التي أقامها أعدائه لاغتياله.
راسبوتين .. الفاجر
ظهرت لدى راسبوتين في طفولته رؤى مستمرة عن القوى الإلهية وقدرات الشفاء الخارقة، إذ كان باستطاعته مثلا أن يبرئ حصانا بمجرد لمسه، لكنه اكتسب في فترة مراهقته اسم راسبوتين، أي الفاجر بالروسية، بسبب علاقاته الجنسية الفاضحة.
نشأ ريفيًا وهرب لسرقته الأحصنة وأفعاله الفاجرة
نشأ راسبوتين في بلدة ريفية بسيطة، وحين بلغ الثلاثين من عمره، كان زوجًا وأبًا لأربعة أطفال، إلا أن ولعه بالشراب وسرقة الجياد كان دائما ما يتناقض مع أصول الحياة العائلية التقليدية.
وكان حادث اتهامه ذات مرة بسرقة حصان نقطة تحول في حياته، حيث هرب على إثرها من القرية وهرب إلى أحد الأديرة حيث اتخذ صفة الرهبانية التي لازمته بعد ذلك طيلة حياته، ومع تأثره بتجاربه الروحانية رحل راسبوتين عن قريته ليصبح مسافرًا جوالًا في أنحاء روسيا وخارجها، وخلال هذه الرحلات لم يغتسل أو يبدل ملابسة لفترات بلغت عدة أشهر.
نفوذ سريعة وتذكية لدخوله البلاط الروسي
وصل إلى سان بطرسبرغ، بحلول عام 1903م، كلامٌ عن قوى صوفية قادمة من سيبريا ذات عيون وحشية مضيئة ونظرة مجنونة، وهو ما يحدد أنه المعاد المثالي لدخول راسبوتين للمجتمع الراقي، حيث كانت الطبقة الأرستقراطية مولعة بمسائل السحر والتنجيم، وكانت عمليات تحضير الأرواح أمرًا مألوفًا.
وفي عام 1905م قابل راسبوتين عالم لاهوت كان يعمل رئيساً لأكاديمية دينية، وكاهن اعتراف خاص للامبراطورة، ألكسندرا فيودوروفونا، وقُدم للبلاط من خلال تزكية مسئولي الكنيسة العليا، وراهبتين سوداويتي الشعر كانتا تعرفان باسم الغرابان، كانتا فعالتان بإمداد البلاط بالصوفيين.
وكان للأسرة الملكية الروسية في الماضي تقليد استقبال الرجال المقدسين من أجل مناشدة تدخلهم بعدة طرق، خاصة تلك التي تؤمّن مولد ذَكر يرث عرش روسيا.
راسبوتين يشق طريقه لرضاء الإمبراطورة عن طريق شفاء ابنها
كان اللقاء الأول بين راسبوتين والقيصر نيقولا الثاني في 14 نوفمبر عام 1905م، ولقد حاز راسبوتين على اندهاش الامبراطورة، ألكسندرا فيوديوروفونا، إذ اقتنعت تمامًا بقدراته، حين استطاع بإعجاز أن يخفف من المعاناة والنزيف الذي أصاب ابنها، أليكسيس نيكوليافبتش، وريث عرش روسيا، المريض بسيلان الدم «الهيموفيليا»، والذي قد ورثه عن أمه، حفيدة فيكتوريا ملكة بريطانيا العظمى، المرض الذي عانى منه ولي العهد، ومات به من قبل أخ الملكة واثنان من أبناء الإخوة وخالها، يبدأ بنزيف تحت الجلد ثم يظهر ورم يتصلب يتبعه شلل مصحوبا بآلام شديدة.
وتقول إحدى النظريات المتعلقة بقدرة راسبوتين على وقف النزيف الذي أصيب به أليكسيس، ابن القيصر، إنه استخدم التنويم المغناطيسي لإبطاء النبض، ومن ثم تقليل القوة التي تدفع الدم إلى الدوران في جسده.
ولم يمضِ وقت طويل منذ أثبت راسبوتين قوته الخارقة للأكسندرا حتى أصبح مستشارها الشخصي المؤتمن على أسرارها، ويزورها في القصر في موعد أسبوعي محدد، فتمتع راسبوتين بنفوذ واسع في بلاد القيصر خلال معظم سنوات عهد نيقولا الثاني ، وتمكّن من جلب المصائب على رأس كل من عارضه أو وقف في طريقه.
شراء راسبوتين لعداوة الكثيرين
بزغ نجم الراهب راسبوتين في سان بطرسبرغ، وبالمثل زاد عدد أعدائه، إذ رآه كثيرون خارج حدود البلاط يحيا حياة السُكر والعربدة، وغالبًا ما يكون بصحبة العاهرات، وحين علم مسؤولون سياسيون كبار بهذه الشائعات كلفوا شرطة سرية بتعقبه.
وكان راسبوتين معارضًا للحرب، وظل يتشفع لدى القيصر كي لا يتورّط في صراع عام ١٩١٣م مع العثمانيين في البلقان، أما الوطنيون المتعصّبون فقد ظلّوا يلحّون على قيام روسيا بمساعدة الأرثوذكس .
كان اثنان من أنصار راسبوتين السابقين، راهب يميني متعصب يدعى «ليودور»، و«هيرموغين» أسقف ساراتوف، على اقتناع تام بأن راسبوتين ما هو إلا تجسيد للشيطان، أما ليودور فقد كان يدعو إلى تدخّل روسيا في حرب البلقان ضد المسلمين، وشنّ حملة لدى الكنيسة الأرثوذكسية كي يطرد راسبوتين ويحرمه من الرهبنة.
فقدم «ليودور» دعاوى كثيرة حول تصرّفات جنسية فاحشة من جانب راسبوتين، وأشاع أن المدعي العام متعاطف مع راسبوتين، وطالب «ليودور» من المجمع الكنسي طرد راسبوتين، وإلاّ سيعتبر نفسه مطرودًا.
تحالف الأعداء لاغتياله
قام «ليودور» و«هيرموغين»، في عام 1911م، باستدرج راسبوتين إلى طابق سفلي حيث اتهماه باستخدام قوى الشيطان للقيام بمعجزاته وضرباه بصليب، وأبلغ راسبوتين الإمبراطورة بالواقعة، وادعى أنهما حاولا قتله ومن ثم تم نفي الرجلين، وفي السابع والعشرين من يونيو عام 1914م عاد راسبوتين إلى قريته في سيبريا.
عاد «ليودور» إلى اسمه الأول «سيرغي تروفانوف»، ووضع رهن الاعتقال المنزلي في قريته جنوب روسيا، وجمع حوله بعض الأتباع المتعصّبين.
وفي بداية عام 1913 تآمرت المجموعة لاستدراج راسبوتين إلى منزل في سانت بطرسبرغ تحت إغراء الجنس، حيث يمكن اغتياله، لكن راسبوتين شعر بالمؤامرة، ولم يأتِ في الموعد المحدد إلى ذلك البيت.
وفي العام التالي 1914م وبينما كان في طريقه لإرسال ردّ لبرقية تلقاها رأى متسولة تعترض طريقه وتطلب منه نقوداً. مدّ راسبوتين يده إلى جيبه، فأخرجت سكيناً، فهاجمته عاهرة سابقة مشوهة مجدوعة الأنف تدعى شيونيا جاسيايا بوحشية، دفعها ليودور لقتل راسبوتين، أصابت الطعنة المعدة، وتمكن راسبوتين من إعاقة المرأة، وسرعان ما تجمع الناس حول المتسولة وجذبوها إلى الوراء.
نبؤة راسبوتين بمقتله
كتب راسبوتين خطابا للقيصر، في ديسمبر عام 1916م، يتنبأ فيه بقتله، وعن قتلته المحتملين، كتب يقول «إذا قتلني أقاربك فلن يبقى أي فرد من عائلتك حيًا لأكثر من عامين، وتستطيع أن تقول أي من أولادك أو أقاربك، فسوف يقتلهم الشعب الروسي. سأُقتل، لم يعد لي وجود في هذه الحياة. صل أرجوك، صل، وكن قويًا، وفكر في عائلتك المصونة».
يوم الإغتيال .. بتفاصيله
في ليلة السادس عشر من ديسمبر عام 1916م، دعا الأمير «يوسوبوف» راسبوتين إلى قصر مويكا بحجة أن الأميرة «إيرينا»، التي يشاع عنها أنها أجمل امرأة في سان بطرسبرغ، تريد مقابلته، وقبل راسبوتين الدعوة.
وخلال ذهابه إلى غرفة جانبية حيث سيكون بانتظاره مائدة عامرة بأنواع الحلويات والفواكه، ستكون قوالب الكعك عامرة بمادة «سيانيد البوتاسيوم» السامة، وإذا فشلت المادة بقتله، فإن السم الموجود في الكؤوس سيتمّ المهمة.
وبينما كان راسبوتين ينتظر ظهورها قدم رجل لراسبوتين قطعتين من الكعك وخمر مدسوس بهما سما مميتا، وشرب راسبوتين كأسين من الخمر المسمومة، ولم يظهر عليه أي أثر للتسمّم، بل إنّه شعر بالمزيد من الظمأ والتشوّق لرؤية الأميرة.
مضى الوقت ولم يحدث شيء أصيب المتآمر بالهلع لما بدا من حصانة راسبوتين ضد السم، فصعد الأمير إلى الطابق العلوي ليخبر بقية المتآمرين الذين توتّرت أعصابهم.
عندما دقّت الساعة ٢,٣٠ ليلاً، لم يعد بإمكان الأمير مواصلة الادعاء بأنَّ زوجته لا تزال تتولى العناية بضيوف آخرين، لذلك استأذن من الراهب قليلاً وصعد إلى الطابق العلوي بدعوى أنه سيستدعي إيرينا حالاً.
لم يستطع يوسوبوف السيطرة على نفسه، واتفق الأمير مع المتآمرين على إطلاق النار على الراهب، وهكذا نزل وهو يخفي مسدساً. وعندما انضم إلى الراهب طلب مزيداً من الخمر، وبعد أن شربها، اقترح الخروج لزيارة الغجر لقضاء وقت طيّب.
ومن الخلف، نزع الأمير مسدسه، وأطلق النيران على راسبوتين الذي التفت فاستقرت الرصاصة في صدره. اتسعت عينا الراهب بشكل مرعب، وفتح فمه كما لو كان سيتكلم، سمع المتآمرين صوت الرصاص، واندفعوا إلى الغرفة، وكانت الساعة ٣ صباحاً، وهناك شاهدوا راسبوتين متمدداً دون حراك، والدم ينزف فوق السجادة، وبصعوبة بالغة ترنح راسبوتين خارجا إلى ساحة القصر.
بدأ الجميع يتخذون الترتيبات لنقل الجثة وجمع أغراض راسبوتين من معطف وقبعة، وذلك لإحراقها، وبالمصادفة فقط، انحنى أحد المتآمرين قريباً من الجثة، وإذ بالرعب يأخذ منه كل مأخذ، فقد فتح راسبوتين إحدى عينيه، ثم فتح العين الأخرى ونهض على قدميه محاولاً الانقضاض على ذلك المتآمر.
تمكّن الرجل من الإفلات، فأسرع هاربًا إلى الطابق العلوي لاستدعاء بقية المتآمرين، هنا انطلق راسبوتين إلى الحديقة وهو يهذي قائلاً: سوف أُخبر زوجة القيصر، وبصعوبة بالغة ترنح راسبوتين خارجا إلى ساحة القصر.
لحق أحد المتآمرين بالراهب في الجوار حيث كان الثلج يغطي المكان،كان بفالوفيتش وبيرشيكفيتش يستعدان للمغادرة، فأطلق يرشيكفيتش النيران ثانية على راسبوتين المترنح، فسقط راسبوتين وضرباه بهراوة وقيداه، وركل المتآمر رأس الراهب الصريع، وقرر المتآمرون أن يلقوا بجسده في نهر نيفا المتجلّدة.
تحقق نبؤة راسبوتين
وبعد مرور تسعة عشر شهرًا على مقتل الراهب راسبوتين، أُعدم قيصر روسيا وعائلته كاملة بأيدي الثوار البلشفيين.
تورط المخابرات البريطانية في اغتيال راسبوتين
تحوم الكثير من الشكوك عن ان تكون المخابرات البريطانية هي المسئولة عن اغتيال راسبوتين، حيث أنه حث القيصر على بدء مفاوضات فردية مع الألمان لإنسحاب الجيش الروسى مقابل السلام، مما يعرض بريطانيا لخسارة حليف مهم «روسيا» في هذه الحرب، لذلك قامت المخابرات بقتله.
وقد وجد بعد 80 عام صور الٌتقطت للجثة بعد العثور عليها أثبتت ان الطلقة المستخدمة في القتل من مسدس بريطانى الصنع، لأنها تحتوي على رأس معدني كان يٌعتبر محرمًا استخدامه في روسيا في هذا الوقت وبتوافق مع نوع من المسدسات البريطانية الصنع وكما أثٌبت ان الرصاصة أطلقت على منطقة الجبهة من مسافة قريبة، مما لا يجهض الرواية التي تقول انه تم قتله من الخلف بعد أن حاول الهروب.