الجمعة, 5 يوليو, 2024 , 11:39 م

 عدت يا يوم مولدي / تأليف كامل الشناوي قصيدة وقصة كتبها دكتور/ حسن صابر

 

عُدت يا يوم مولدي … عُدت يا أيها الشقي …

الصبا ضاع من يدي … و غزا الشيب مفرقي …

ليت يا يوم مولدي … كنتَ يوما بلا غد …

ليت أني من الأزل … لم أعش هذه الحياة…

عشتُ فيها و لم أزل … جاهلا أنها حياة …

ليت أني من الأزل … كنت روحا و لم أزل …

أنا عمرٌ بلا شباب … و حياةٌ بلا ربيع …

أشتري الحب بالعذاب … أشتري فمن يبيع؟

أنا وهمٌ … أنا سراب …

قصة القصيدة :

كانت كلَّ شيءٍ في هذه الدنيا بالنسبة إليه . . أحبها بجنون ، وتخيّل حسب وصفه : شلال الكرز ينهمر من بين شفتيها ، وعبير العنبر ، وكل المتبّلات الحارّة في الشرق تشرق من جبينها ، وسحر الليل في عينيها ، والدلال في شعرها المتهدّل على كتفيها .

إنها المطربة الرائعة نجاة الصغيرة . . وهو كامل الشناوي ، أمير شعراء الحبّ ، الحامل قلبه ، يتحسّس به خطاه في الدنيا ، فيتجسّد حبراً سرمديّاً عبر كلمات وأغنيات عاشت في خيالنا واستقرّت فيه وفي ضمير أجيال وأجيال ، وستبقى ما دامت هناك قلوب تخفق وعيون تتلاقى ودموع تنهمر .

كان الشناوي يعلم بأن نجاة لا تبادله المشاعر نفسها ، وكان لا يتجاهل ذلك ، بل يتوجّه إليها بما يشبه البوح والشكوى والأسى قائلا : إفهميني على حقيقتي . . أنا لا أجري وراءك بل أجري وراء دموعي ، كون العاشق يهوى عذابه ، لأن في عذابه لذة .

بداية الحكاية : بدأت القصّة عندما دعت نجاة الشاعر الشناوي في الخمسينيات من القرن الفائت إلى حفل عيد ميلادها ، وقبل يومين من الموعد المحدد ، أخذ يفكر بإختيار هديّة مناسبة لها ، هديّة تعبر عن مشاعره تجاهها. .
وقع في حيرة ، لكنه لم يستسلم ، جال في شوارع القاهرة كلها ، ولم يترك فاترينة متجر تمر عليه ، إلى أن كان له ما أراد : عطر باريسي آسر وساحر ، يتكامل مع سحر الحبيبة . . قبل وصوله إلى منزلها ، كان يحلم ، لكن هذا الحلم تحوّل فجأة إلى كابوس . . قرع الجرس . .
لحظات إنتظار حوّلها الشوق دهراً . . بعدها فتح أحدهم الباب ، وكانت الصاعقة : يد رجل تلامس يدي نجاة برفق وحنان !!!

ماذ فعلت يا زمن؟
بسرعة البرق ترك الهديّة على طاولة في المدخل ، وانسحب بهدوء وسكون ، من دون ان يشعر به أحد ، وأسرع عائداً إلى فندق هيلتون التحرير . . ذهب إلى الحمام . . طالع صورته فصفعته المرآة ! ! كان سابقا يرى نفسه بمرآة الشاعر ، وينظر إلى شكله بعين البصيرة وليس بعين البصر ، أما هذه المرة فكان الأمر مختلفاً ، لأن المرآة البلورية لا تكذب ، بل تنقل بصدق وأمانة الصورة الحقيقية .

الصورة الحقيقية ؟! لا . . بل قل الصفعة : شعرٌ ملأهُ البياض ، أخاديد حفرتها السنون على الوجه ، وجسم ضخم يزن خمسة أضعاف جسم نجاة .

صدمتان في يوم واحد ، كانتا أشد قوة من قدرة الشناوي على التحمل ، ولم يكن أمامه إلا القلم لإنتشاله من الألم ، فإستله وكتب بمداد القلب ودمع العين :

عدت يا يوم مولدي/عدت يا أيها الشقي/الصبا ضاع من يدي/وغزا الشيب مفرقي/ليت يا يوم مولدي/كنت يوما بلا غد/ليت أني كنت من الأزل/لم أعش هذه الحياة/عشت فيها ولم أزل/جاهلاً أنها حياة/أنا عمر بلا شباب/وحياة بلا ربيع/أشتري الحب بالعذاب/أشتري فمن يبيع؟

في صباح اليوم التالي اتصل بصديقه الصحفي الكبير مصطفى أمين باكياً وطلب حضوره الى هيلتون . . ذهب مصطفى امين مسرعاً الى هيلتون فوجد صديقه كامل الشناوي في حالة إرهاق شديدة ، عيناه تكاد تخرجان من وجهه ، لم ينم طوال الليل ، وظل يدخن السجائر دون توقف حتى أن مصطفى أمين وجد طفايات السجائر بجانبه ممتلئة عن آخرها بالرماد . . أو رماد السجائر التي أحرقها كامل الشناوي ، أم أنه رماد إنسان أحرقه حب من جانب واحد للمطربة الرقيقة نجاة ، وروى لمصطفى أمين ما حدث ، وكان الرجل الذي وجده بصحبة نجاة ويده في يدها هو الشاعر الكبير نزار قباني . . حاول مصطفى أمين تهدئته واصطحبه الى بيته لينام ، ولم ينصرف حتى تأكد أنه نام ، بعدها انصرف مصطفى أمين .

بعد تلك الليلة الليلاء بأسبوع ، التقى الشناوي بمحمد عبد الوهاب ، الذي سأله : هل من جديد يا كامل ؟
ولم يتردد الشناوي ، بل سحب القصيدة على الفور ، وقرأها له ، وبدوره لم يتأخر عبد الوهاب في الإعراب عن دهشته وإعجابه بالإبداع الذي وجده في كل حرف من حروفها معبرا عن هذا الإعجاب بكلمتين مختصرتين مفيدتين ، قالهما بالعامية المصرية :

حا لحنها

وروى الموسيقار سيد مكاوي في هذا الصدد ، ان فرحة الشناوي قاربت الجنّة ، ونقل عنه رده بعفوية على بادرة عبد الوهاب ، قائلا: حتبقى أجمل لحظة في عمري لما حاسمعها ملحّنة على يدي الملك ، وهو اللقب الذي عرف به الموسيقار الكبير عبد الوهاب .

ومرت الأيام . . سنتان وستة أشهر ، لم يظهر خلالها اللحن المنتظر ، وكان الشاعر يتألّم ، لكن كبرياءه منعه من الاتصال بعبد الوهاب ، إلى أن التقى بالموسيقار فريد الأطرش في أحد المقاهي المعروفة في شارع 26 يوليو في القاهرة ، فبادره فريد بالقول : في حاجة جديدة أستاذ كامل؟؟

تردّد شاعرنا قليلا ، ثم سحب القصيدة من جيبه وسلّمها إلى فريد ، الذي قرأها وهو مندهش أشد الأندهاش ، قبل ان يسمع منه قصتها .القصيدة مع عبد الوهاب…

كانت المفاجأة بعد عشرين يوماً ، حين التقى في المقهى نفسه ، كل من :عبد الوهاب ، عبد الحليم حافظ ، كامل الشناوي ، سيد مكاوي ، وفريد الأطرش . . وكان سؤال الجميع لفريد هل من جديد لديك ؟؟

وكأنّها لحظات سحرية تاريخية ، امسك فريد بالعود وعزف قرابة خمس دقائق ، عزفاً منفرداً ، ثم إنهمر منه اللحن الخالد الذي سبق عصره بنصف قرن : عدت يا يوم مولدي . . عدت يا أيها الشقي

فما كان من عبد الوهاب ، عند انتهاء فريد من العزف والغناء ، الا أن قال له بنفسية العبقري النبيل الذي يعترف بالآخر : الله الله الله يا فريد . . دي القصيدة في جيبي من سنتين ونص ، ولم أستطع أن أجد اللحن المناسب لمطلعها ، الله يخرب ذوقك ! ازاي لحّنتها ؟ دا عظيم . . فأجاب فريد بلهجة الفنان الواثق وبتواضع الكبار وأمام كامل الشناوي : أخذتها من كامل منذ عشرين يوماً ، وأخذت معي خمسة عشر يوماً ، واكتمل لحنها . . هكذا قال فريد الأطرش .

كانت لحظات تاريخية خالدة . . أيام العز والفن الجميل ، حيث الإحترام المتبادل ، وحيث الفن يرتقي ويعلو ويسمو بالدنيا والعالم والناس .

قصة أحببت أن أوثقها للتاريخ ، وأن أحكيها لكم في ذكرى يوم مولدي أنا كما جاءت على لسان الموسيقار سيد مكاوي في أحد مجالس آل الأطرش الكرام .

وقد كتب الأستاذ مصطفى أمين هذه القصة في ذكرى وفاة صديقه العزيز كامل الشناوي ، ونشرها في عموده اليومي بالصفحة الأخيرة من جريدة الأخبار ، فثارت نجاة الصغيرة ، وغضبت متصورة ان مصطفى أمين يشهر بها وبسمعتها ، واقسمت ذلك القسم المعروف في الأدبيات المصرية بان تجرجره في المحاكم المصرية ، وبالفعل رفعت عليه قضية ، قبل ان تبدأ المحكمة في نظر القضية تدخلت الزعيمة والكبيرة أم كلثوم وطلبت من نجاة أن تسحب القضية من المحكمة ، فإستجابت نجاة فوراً لطلب كوكب الشرق وسحبت القضية ، وعقدت ام كلثوم جلسة صلح لنجاة مع الاستاذ مصطفى أمين .

هؤلاء فنانون وفنانات أبدعوا ، لكن إبداعهم لم ينسهم الأخلاق الكريمة ، ولم يسلمهم للغرور ، ولم يسحب منهم الحب والتسامح . . تفرغوا لفنهم فبقوا في عقولنا وقلوبنا ، ولسوف يبقون في ذاكرة التاريخ إلى أن ينتهي التاريخ .

اترك رد

%d