الإثنين, 25 نوفمبر, 2024 , 2:03 ص

رمبرانت

تقديم دكتور/ حسن صابر

ولد ” رمبرانت ” الفنان الهولندي في ليدن Leiden بهولندا عام 1606 ، ورغم أن والده كان طحاناً ووالدته إبنة فرَّان إلا أن عائلته كانت ثرية . . ظهرت موهبته في الرسم منذ أن كان شاباً وقبل إلتحاقه بالجامعة ، وفي عمر 18 عاماً إنتقل رمبرانت إلى أمستردام ، وترك الجامعة ليلتحق بمتجر فني يستوحي لوحاته من أسلوب كارافاتشيو . .
تتصادف قمة نشاط رِمبرانت في القرن السابع عشر تزامناً مع العصر الذهبي للفن الهولندي حسبما تعارف المؤرخون ، حيث كانت امستردام تسيطر على التجارة العالمية وتشكل أحد أهم مرافئ اوروبا ، ونقطة أساسية للتبادل التجاري والصناعي والفن والعلوم ، وتعرض بعض لوحات رمبرانت في متحف ” ريجيكس ” أي ” المتحف الوطني ” أو ” National Gallery ” في أمستردام ، ذلك المتحف الذي يحوى أهم اللوحات الفنية التي رسمها عمالقة الحقبة الذهبية كرمبرانت ، فيرمير ، وفرانسوا ، هؤلاء هم الذين قاموا بإستيراد الخزف الصيني ، وإخترعوا بديلاً عنه هنا في هولندا يعرف بالِدلْفِت الأزرق .
يعد رمبرانت اكثر رسام رسم لوحات شخصية لنفسه حيث رسم ما بين 40 – 75 لوحة رسم شخصي لنفسه ، كما أنه تميز بغزارة إنتاجه إذ تنسب إليه أكثر من 600 لوحة ، وهو من أقرب الفنانين إلى قلب الإنسانية لأنه عرف كيف ينقل أفراحها وأحزانها ويحيلها إلى أشكال رائعة من الظلال والنور ، وقد كان رمبرانت شغوفاً بوجه الإنسان وتعابير الوجه التي كان بارعاًفي تصويرها ، بالإضافة إلى إهتمامه بالطبيعة ومشاهد الحياة اليومية .

ويعد رمبرانت أحد عباقرة الفن ممن يشهد لهم التاريخ بالتميز والإبداع ، ويمثل رمبرانت أحد ركائز الفن التشكيلي الأوروبي في القرن السابع عشر ، والذي طور عالم التصوير برؤيته التشكيلية وتعامله مع الظل والنور ، كما أنه برع في تصوير الأشخاص والتعابير الإنسانية العميقة والمتداخلة والمفعمة بالحزن والشقاء والمعاناة في كثير من لوحاته المستوحاة من القصص الدينية والأسطورية .
تميزت أعمال رمبرانت بطبيعة خاصة تتطلب من المراقب التريث وإعادة النظر مرات عدة في محاولة إكتشاف سر التأثير القوي التي تتركه بداخلنا ، ويمكن تفسير العمل من خلال الفحص الدقيق والشامل للتفاصيل الواضحة في رسوماته ،
إختص برسم الشخصيات والمواضيع الدينية المقتبسة من ” التوراة والإنجيل ” كما كان للأساطير نصيب وافر من أعمال رمبرانت إلى جانب صور شخصية ( بورتريه ) عرف منها ست عشرة لوحةً منتشرة في عدد من متاحف العالم . . ” رمبرانت فان رين ” الرسام الذي ” ولد فقيراً . . عاش غنياً . .
ابتكر رمبرانت طريقة استخدام الطرف الآخر من ريشة الرسم ليخدش به اللون الطري قبل جفافه ، وذلك من أجل زيادة لمعان الشعر ، كما إعتاد أن يغير تقنية الرسم حسب اللوحة ، وكان يحدد الشخصيات والأشياء بالألوان الفاتحة والقاتمة ، ويخلق التأثيرات الضوئية بإستخدام الأبيض المطفي ، وعند الإنتهاء من هذه المرحلة ، كان ينتظر جفاف الألوان ثم يضيف الألوان النهائية على اللوحة ، ومن الممكن أنه كان يضيف صفار البيض والورنيش ، كما كان يضيف زيت الكتان إلى بودرة الأوكرا ( الكركم ) الصفراء ، وهو أحد الألوان التي إستعملها رمبرانت .
كان رمبرانت يبدأ برسم خلفية اللوحة أولاً إلى أن يصل إلى مقدمتها ، ويمدها بطبقات من الألوان ، ثم يستكملها عن طريق مسحها بفوطة مبللة بزيت التربنتين ، كي يحصل على درجة اللون المطلوبة ، وبهذه الطريقة كان يضيف أبعاداً ثلاثية للوحة ، وبالتحديد إلى الجلد والأسطح .
إرتقى رمبرانت بأسلوبه وحياته خلال حياته المهنية ، فقد إنتقل من الأجواء الهادئة والناعمة إلى الأجواء التي تحدد بشكل واضح حدود وإطار الشخصيات التي تقودنا إلى دهاليز معالم وجوهها ومشاعر أصحابها ، من خلال التلاعب بفضاءات العتمة وبقع الضوء .
حصل رمبرانت على شهرة واسعة وعاش في رفاهية وغنى ، وقام بإستثمارات عدة . . كان منزله مدرسة يعلم فيها تلاميذه بدءاً من عام 1639 إلى عام 1658 ، وقد اشترى هذا المنزل من أحد النبلاء ودفع فيه ثمناً باهظاً ، وعلى الرغم من ذلك بدأ الطلب على لوحاته في التراجع ، وتدهورت أحواله المالية حتى وصل إلى الإفلاس ، بعد سلسلة من الأحداث العائلية المؤلمة التي أثرت بشكل عميق على أسلوب لوحاته ، ففي عام 1635 أنجبت له زوجته ساسكا إبناً لكنه عاش لشهرين فقط ، وبعد ثلاثة أعوام رزق بطفلة توفيت بعد ثلاثة أسابيع ، ثم أنجب بعد ذلك طفلة ثالثة لكنها توفيت أيضاً ، وفي العام التالي ولد طفله تيتوس الولد الوحيد الذي عاش حتى بلغ سن الرشد ، وعَقِبَ ولادة تيتوس توفيت أمه ساسكيا بمرض السل ، بعد أن رسم لها رمبرانت عدة لوحات جميلة مؤثرة . . وبعد وفاة ساسكيا ، ظلت خادمته وفية له وأنجبت له إبنة . .
وبسبب إفلاسه ، إضطر رمبرانت إلى بيع بيته ، وبعض من لوحاته ، وذهب للعيش في بيت متواضع بضاحية المدينة ، وكانت تلك الأيام صعبة للغاية ، ومع ذلك لم يتوقف عن العمل والرسم حتى آخر أيامه ، وقد توفى إبنه تيتوس عام 1668 تاركاً وراءه إبنة ، ثم مات رمبرانت في أكتوبر 1669 بعد عام واحد من وفاة إبنه تيتوس .

وطبقاً للدراسات ، فإن رمبرانت قد رسم الآلاف من اللوحات الفنية التي بلغت أثمانها أرقاماً خيالية ، وإستطاع بأسلوبه المتفرد أن يكون مرجعاً ومعلماً كبيراً لكثيرٍ من الفنانين من بعده . . كما إقتحم بفرشاته المحملة بالضوء عمق الظلام تاركاً للتاريخ أبدع الكنوز الفنية المحفوظة في المتاحف العالمية إلى يومنا هذا .

اترك رد

%d