الإثنين, 25 نوفمبر, 2024 , 12:16 ص

مريم .. قصة قصيرة تكتبها :  مروة خلاف

 

تودعهما عند باب المنزل ، وتوصيهما بالانتباه الِي حالهما جيداً ، تنتظر عودتهما في المساء ، وتُذَكِّرْهما دائماً بإصرارٍ . . لم يعد لي سواكما يا رفقة العمر . . هكذا إعْتادت مريم أن تصفَ من حملتهما وَهْنَاً علي وَهْنٍ . . ” رفقة العمر “ فيليب وروكسانا . . أصابعُ يدٍ واحدةٍ ويكملا عامَهُما السابع عشر . . توأما الروح . . هكذا أيضاً أحبت أن تصفهما حين تشعر بحنينٍ لماضىٍ لا يعلمْ أسرارَه وخباياه غيرُها بروحها .

في أعماقِها ظلت مريمُ تشعرُ أن روحاً واحدةً تَسْكُنُ جسدَ كلٍ مِنْ فيليب وروكسانا ، وأنها توأمٌ لتلك الروح ، حتى أصبحا دوماً وبعد رحيل إسكندر بأعوام قليلةٍ لزواجها منه يمثلان توأماً لروحِها . .

قبل سبعة عشر عاماً إستغرقها عمر روكسانا وفيليب ، كانت هناك عشرة أعوام من عمر مريم يحيا خلالها في قلبِها جنينٌ ، قُدِّر له ان يكون روحاً ، وأصبح فيليب وروكسانا توأمين لتلك الروح التي سكنت مريم يوماً قبل سبعة وعشرين عاماً . . إحتفظت مريم بهذا السر وحدها ، ولم يعلم به أحدٌ في هذا الكون سوى صديقةٍ واحدةٍ لها .

تدير مريم وجهتها نحو غرفة نومها ، وتشعر بحنين لم تستطع مقاومته لذلك الصندوق الخشبي الصغير الذي مازالت تحتفظ بمفتاحه ، وكان يمكن بمرور السنين أن يصدأ ، لولا عناية مريم به وكأنه قطعةٌ من الألماس ، ربما لكونه مفتاحَ قلبِها ، أو مفتاحَ جنتِها الموجودة في باطن عقلها ، تلك الجنة التي حلمت أن تسكنها يوماً معه . . تضع فوق كتفيها شالاً يُخَفِّفُ عنها برد الشتاء ، رغم إعتقاد مريم بأن قسوة الشتاء تكمن في ذكرياته وليست في برودته . . عقدت العزم أن تجلس على مقعدها المفضل ، داخل بلكونة غرفة نومها المطلة على حديقة خلفية لواجهة العمارة التي تسكنها ، والتي تشعر معها ان كل جارٍ يجلس على مقعدٍ داخل بلكونة منزله ، مطلاً نحو نفس الحديقة ، إنما يحمل في قلبه ذكرى لا يسعها غير قلبه ومقعد في هذا المكان ، ربما يحمل سراً ، ربما يحمل ألماً . . هكذا إعتادت مريم  أن تضحك وتخبر صديقاتها بأنها علي يقين أن أشجار تلك الحديقة هي كاتمُ أسرارِها وكاتم أسرارِ كثيرٍ من سكان ذلك المبني الذي تسكنه . .

جلست مريم إلى مقعدها المفضل ممسكةً بذلك الصندوق الخشبي الصغير ، وقبل أنْ تَهِمَّ بفتحه ، سقط عليه شعاعٌ من شمس ديسمبر ، فلمع بريقه في عينيِّ مريم ، كطفلة قد رأت لتوها نجماً يلمع في السماء ، فما كانت تلك اللحظة غير أن تأخذ مريم لسنوات مضت ، ولم تتمكن تلك السنوات بكل ماحملته من تبعات وضجة الحياة أن تنسي مريم يوماً واحداً حبيبها “ يوسف “ .

تعصف الذكريات برأس مريم ، وتضربه ضربةً هي الأشد منذ سنوات طويلة ، فتبتسم وتصمت طويلاً لتري يومها الأول وخجلها الأول وحبها الأول بل والأخير !! . . يوسف . . تصمت مريم لتسمع صوت حنينها . . تشعر بالألم لفراق يوسف ، فتحدث نفسها إخترتُ لإبني وإبنتي أسماءاً لا تحمل يوماً شكاً أنهما غير مسلمين ، فما تمنيت لأحدٍ أن يتألم ألمَ فراقِنا يا يوسف . . مازلتُ أشعر بلهفة قلبي وكأنها تحدث من جديد حين إلتقيتك أولَ مرةٍ  . . لازلت أذكر فرحةَ قلبي حين عودتي لبيتي بأن اسمك يوسف ، وكيف أنني تساءلت وفرحت بأن إسمَكَ يوسف ، لكن سرعان ما استيقظت . .  “ وما يعنيك يا مريم أن إسمه يوسف ؟! يوسف ليس حكراً علي صليبك يا مريم . . لم أعلم حينها أنّ حديث نفسك لم يختلف عن حديثِ نفسي وعن مخاوفي حين إلتقينا ، فمريم أيضاً ليست حكراً علي قرآنك يا يوسف . . أحببتك منذ وقعت عيناىَّ عليك . . زاد حبي مع كل يومٍ مر علي لقائنا . . تقاربنا . . نَمَت وكَبُرَت داخل كلٍّ مِنَّا رابطةُ روحٍ لا تعرف ديناً ولا وطناً ،  بل سكناً لمن سَكَنَتْ روحُهُ روحي ، وأصبحتُ لا أدرُكْ أيَّ إختيارٍ في هذه الدنيا سواك يا يوسف

ظللنا سنوات وسنوات لم أقرب قرآنك وإن أحببتُ ، ولم تؤمن بصليبي وإن إتفقت . . كنت امارس عاطفة حبك التي فطرني الله عليها وكأنها صلاة . . تعاهدت روحي مع روحك يا يوسف ، وحَمَّلْتُ نفسي ألم فراقك الذي طالما هربنا من مواجهته سنوات وسنوات . . إفترقنا يا يوسف ، ولو أنَّ الأمرَ بيدي وعاد بـي الزمانُ إلى الوراء ، لإحتكمتُ لشريعةِ ربِّ محمدٍ لتتزوجني وما فارقت صليبي . .

مريم تعلم عن شريعة محمد ربما مالا يعلمه يوسف نفسه ، في حين كان يوسف ينتظرُ منها أن تضيءَ له شمعةً حين يَشْتَدُّ به أمرُ شيءٍ !

تهتزُّ مريمُ في حيرةٍ بعد ان عصفتْ أسرارُ صندوقِها الصغير برأسها الجميل وروحِها الطاهرةِ وقلبِها الذي كان ومازال ينبض بحبِّ يوسف . . تمسك بذلك المفتاح الصغير ، وتغلق به بابَ قلبِها من جديد ، وترفع للسماء لوماً بعينيها . . تلمع عيناها وهى تقاوم دموعها . . إنهارت وتدفقت الدموع . . تمنت لو أنها تستطيع الصراخ . . كتمت الصرخة بداخلها وهى تقول :

  ” ما لي اري سواك يا يوسف ..  فيَّا خالق يوسف ومريم من سواك يعلمُ ألمَ الفِراق “ !

اترك رد

%d