السبت, 18 مايو, 2024 , 10:32 م

الدكتور حسن صابر يكتب : الدمار لمن يجرؤ على تغيير الدولار كعملة للبترول

 

النظام العالمي الجديد ( الجزء العاشر )

كما نوهت في الجزء الخامس ط في عام 1945 إعتمدت بريطانيا الدولار كعملة للإحتياطات العالمية ، مما يعني أن التداولات التجارية العالمية أصبحت بالدولار ، هذه الإتفاقية منحت الولايات المتحدة مميزات مالية ضخمة ، بشرط  أن يتم  تعويض الدولار بالذهب بسعر ثابت هو 35 دولار للأونصة ( الأونصة أو الأوقية تعادل 28 جرام )  ، ووعدت الولايات المتحدة ألا تطبع المزيد من الدولارات ، ولكنه كان وعدآ زائفآ ولم تلتزم به ، لأن الإحتياطي الفيدرالي رفض السماح بأي مراجعة أو إشراف على مطابع صناعة النقود ، وكانت نفقات الحرب على فيتنام في السنوات التي سبقت سنة 1970 قد أكدت للعديد من الدول أن الولايات المتحدة لم تلتزم بتعويض قيمة الدولار بالذهب ، فكان رد فعل هذه الدول التي أودعت ذهبها في الخزينة الأمريكية  هو المطالبة بإسترجاع الذهب ، وهذا بالطبع أدى إلى إنخفاض سريع في قيمة الدولار .

تفاقمت الأزمة سنة 1971 عندما طالبت فرنسا بالذهب ، لكن الطلب قوبل بالرفض من قبل الرئيس نيكسون ، وفي 15 أغسطس من نفس العام ألقى الرئيس نيكسون خطاباً أعلن فيه أنه أعطى تعليمات لأمين الخزينة السيد كونولي ، لإتخاذ الإجراءات اللازمة للدفاع عن الدولار ضد المضاربين ، وتعليق قابلية تعويض قيمة الدولار بالذهب أو بالأصول الإحتياطية الأخرى بصفة مؤقتة – منتهى البلطجة – بإستثناء المبالغ والحالات التي تقتضيها مصالح الولايات المتحدة في الإستقرار المالي ، وكان واضحاً أن هذا ليس تعليقاً مؤقتاً كما إدعى نيكسون بل كان ولازال قائماً حتى يومنا هذا ، وإعتبرت الدول التي عهدت بذهبها إلى الولايات المتحدة  أنها سرقة مالية كبرى .

في عام 1973 طلب الرئيس نيكسون من الملك فيصل إعتماد الدولار الأمريكي فقط في بيع النفط ، وأن يستثمر كل الأرباح في الخزينة الأمريكية ، بعقود وسندات أمريكية ، وفي المقابل عرض الرئيس نيكسون حماية الولايات المتحدة لحقول النفط ، ونفس العرض قدم إلى كل الدول المنتجة للنفط ، ثم حدث أنه في عام 1975 وافقت كل الدول الأعضاء في الأوبك على إعتماد الدولار فقط لبيع النفط ، هذه الخطة خلصت البنك الفيدرالي من مأزق تعويض الدولار بالذهب ، وربطت قيمته بالنفط الأجنبي ، وأجبرت على الفور كل الدول المستوردة للنفط في العالم على أن تضمن  إمدادات ثابتة من الأوراق النقدية إلى الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي ، كما يجب على الدول الأخرى إرسال سلع مادية ذات قيمة عالية إلى أمريكا ، وكان هذا هو مولد البترودولار ، وكنتيجة لهذا أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية غنية جدآ وشديدة الثراء ، وكانت أكبر عملية إحتيال مالي في تاريخ البشرية ، ومن هنا بدأ سباق التسلح في الحرب الباردة يبدو كأنه لعبة البوكر ، الإنفاق العسكري عبارة عن رقائق البوكر ( الفيشات ) ، والولايات المتحدة لديها كميات لا محدودة من هذه الرقائق ، وبإمكانية السيطرة على البترودولار أصبحت أمريكا قادرة على رفع الرهان أكثر فأكثر لإستنزاف ثروات كل بلدان العالم ، حتى أن النفقات العسكرية الأمريكية تجاوزت نفقات جميع الدول الأخرى في العالم مجتمعة ، ولهذا لم تكن هناك أية فرصة للإتحاد السوفيتي للمنافسة في سباق التسلح ، وإنهارت الكتلة الشيوعية في عام 1991 ، وإنتهت آخر قوة موازية للقوة العسكرية الأمريكية ، وأصبحت الولايات المتحدة قوة عظمى بلا منازع ، وأصبحنا نعيش عالم القطب الأوحد ، وتأمل العديد أن هذا سيمثل بداية لعهد جديد من السلام والإستقرار ، لكن للأسف أصحاب النفوذ كانت لهم خطط أخرى ، وفي نفس العام قامت الولايات المتحدة بغزو العراق في حرب الخليج الأولى ، وبعد سحق الجيش العراقي ، وتدمير البنية الأساسية بما فيها من محطات تنقية المياه والمستشفيات ، تم فرض عقوبات إقتصادية لمنع العراق من إعادة بناء البنية التحتية من جديد ، وإستمرت هذه العقوبات التي بدأها بوش الأب ، وإستمرت طوال ولاية كلينتون ، لأكثر من عقد ، وقدر عدد الضحايا بأكثر من نصف مليون طفل ، وكانت إدارة كلينتون على علم تام بهذه الأرقام ، وقد صرحت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية في عصر كلينتون أن هذا العدد يفوق الذين قتلوا في هيروشيما ، وسألتها إعلامية أمريكية إستضافتها ، هل كان الأمر يستحق هذا الثمن ؟ فردت مادلين أولبرايت أنه كان خيارآ صعبآ ، ولكننا نعتقد أن الأمر يستحق هذا الثمن ، وتساءل الكثيرون ، سيدة أولبرايت ما هو بالضبط الأمر الذي يستحق أن يقتل بسببه نصف مليون طفل ؟

وقبل غزو العراق  كانت الطائرات الأمريكية تقصف أفغانستان ، وطرح سؤال مهم من الجنرال ويسلي كلارك ، وهو هل مازالت الحرب ضد العراق محتملة ؟ وكانت الإجابة نعم ، بل إن الأمور قد تكون أسوأ من ذلك ، يقول ويسلي كلارك أن المسئول الذي كان يحاوره قد مد يده إلى مكتبه ، وسحب قطعة من الورق وقال : نزلت للتو من الطابق العلوي اليوم ( يقصد أمين مكتب الدفاع ) ، وقال أن هذه مذكرة تصف كيف ستضرب 7 دول بدءاً من العراق ، ثم سوريا ، وتنتهي بإيران .

في نوفمبر عام 2000 ، بدأ العراق يبيع النفط حصريآ باليورو ، وإعتبرته الولايات الأمريكية هجومآ مباشرآ على الدولار ، وعلى الهيمنة الإقتصادية للولايات المتحدة ( فهل حسبها صدام بدقة ، وقدر عواقب قراره هذا ، وهل قدر قوته جيدآ أمام القوة الأمريكية ؟ ) وهو أمر لم تستطع أمريكا أن تتغاضى عنه ، ورداً على ذلك قامت الحكومة الأمريكية بإطلاق حملة دعاية مكثفة بالإستناد إلى وسائل الإعلام ، أشاعوا فيها أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل ، وقياداتها مصممة على إستخدامها ، وكلنا نذكر التمثيلية الفجة والفيديو المزيف اللذين قدمهما الجنرال كولن باول رئيس هيئة الأركان العسكرية الأمريكية في مجلس الأمن لإثبات أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل ، وظل المندوب العرااقي وحده يكافح لإثبات أن بلده لا يمتلك هذه الأسلحة لكن دون جدوى حتى حصلت أمريكا على تفويض من مجلس الأمن لغزو العراق وتدمير أسلحة الدمار الشامل التي زعمت أن العراق يمتلكها ، وفي عام 2003 غزت الولايات المتحدة الأمريكية العراق ، ولم يجدوا أسلحة دمار شامل ، فإعتذر الجنرال كولن باول . . هكذا ببساطة بعد تدمير بلد ، وقتل مليونين من العراقيين يعتذر كولن باول ثم إختفى بعد ذلك عن الحياة العامة لعله إستشعر تأنيب الضمير بعد أن كذب على العالم وأهان شرفه العسكري ، وبمجرد السيطرة على العراق ، عاد الدولار ليكون العملة المعتمدة لبيع النفط العراقي ، هذه حقيقة لا غبار عليها ، فإعتماد الدولار يعني خسارة بنسبة 15-20% في إيرادات العراق بسبب إرتفاع قيمة اليورو ، وسيبقى الأمر محيرآ ما لم تأخذ البترودولار في الإعتبار .

دعونا نلقي نظرة على الأحداث في العقد الماضي ، ونرى إذا كان بإمكاننا ملاحظة نمط معين ، في ليبيا كان القذافي بصدد تنظيم وحدة من البلدان الأفريقية ، لإنشاء عملة موحدة وهى “الدينار الذهبي” ، والذي كان هدفه هو إستخدامها لتحل محل الدولار في تلك المنطقة ، وساعدت الولايات المتحدة قوات الناتو   على زعزعة وإسقاط الحكومة الليبية في عام 2011 ، وبعد السيطرة على المنطقة ، أعدم ثوار الناتو القذافي بدم بارد ، وفورآ أسسوا البنك المركزي الليبي ، وقامت إيران بحملة نشيطة لوقف مقايضة النفط مقابل الدولار ، وحصلت على إتفاقيات للبدء في بيع النفط مقابل الذهب ، وردآ على ذلك ، قامت الحكومة الأمريكية بدعم من وسائل الإعلام الرئيسية ، بمحاولة للحصول على الدعم الدولي لتوجيه ضربات عسكرية إلى إيران ، بحجة منع إيران من صنع سلاح نووي ، وفي الوقت نفسه ، تم تسليط عقوبات إقتصادية على إيران ، ويعترف المسؤولون الأمريكيون علناً أن الهدف هو التسبب في إنهيار الإقتصاد الإيراني ، وسوريا هى الحليف الأقرب لإيران ، وقد وقعا إتفاقيات دفاع مشترك ، وبمساعدة سرية من الناتو ، تقوم بعض الأطراف بزعزعة الإستقرار في هذه البلاد ، وعلى الرغم من التحذيرين الروسي والصيني ، لأمريكا بعدم التدخل ، إلا أن عملية تدمير سورية بدأت بواسطة داعش التي صنعتها أمريكا ، وبمساعدة عصابات الارهاب في سوريا ، وبالتعاون مع بعض دول حلف الناتو ، وربما تدور الدائرة على إيران في ظل الرئيس الجديد ترامب .

الدافع وراء هذه الحروب والعمليات السرية يتضح عندما نضع الأحداث في السياق الصحيح ، وعندما نربط النقاط ، أولئك الذين يسيطرون على الولايات المتحدة يدركون جيدآ ، أنه حتى إذا بدأت عدد من البلدان ببيع نفطها بعملة أخرى ، فإن الأمر سيفجر تفاعلآ متسلسلآ ينتقل من بلد نفطي لآخر ، وقد يؤدي إلى إنهيار الدولار ، هم يعرفون جيدآ أنه ليس هناك طريقة أخرى تساعد على إنخفاض قيمة الدولار ، والعالم يدرك هذا ، ولكن بدلاً من القبول بالأمر الواقع ، وبأن الدولار يقترب من نهايته المحتومة ، قامت القوى المسيطرة بمناورات محسوبة ، وإتفقوا على الإستخدام المفرط للقوة العسكرية ، لسحق كل دولة مقاومة في الشرق الأوسط  وأفريقيا وهذه الطريقة بحد ذاتها لها عواقب وخيمة ، والعجيب أن أمريكا تدرك أن هذا الخطر على الدولار لن ينتهي بنهاية إيران وسوريا ، فالصين وروسيا أعلنتا أنهما وتحت أي ظرف ، لن يتسامحا مع أي هجوم على إيران أو سوريا ، لأن إيران واحدة من أهم حلفائهم في المنطقة ، كما أن إيران تعتبر من أهم  منتجي النفط المستقلين في المنطقة ، وهما يدركان أنه إذا سقطت إيران ، لن يكون أمامهما مفر من إستخدام الدولار دون اللجوء إلى الحرب ، واستمرت الولايات المتحدة في تماديها على الرغم من التحذيرات ، وما نشهده الآن هو المسار الذي يؤدي مباشرة إلى الحرب العالمية الثالثة ، إنه المسار الذي رسموه منذ سنين ، مع إدراكهم الكامل للعواقب التي ستنتج  عن ذلك ، ولكن من الذي وضع أمريكا على هذا المسار ؟ وأي نوع من المختلين عقليآ مستعد لتفجير صراعات عالمية ، قد تؤدي إلى حصد أرواح الملايين من البشر ، لمجرد حماية قيمة عملة ورقية ، من الواضح أنه ليس الرئيس ، لأن قرار غزو ليبيا وسوريا وإيران حسم قبل إعتلاء أوباما كرسي الرئاسة بوقت طويل ، ولكنه ينفذ واجبه تمامآ مثل الدمي التي سبقته ، فمن الذي يحرك هذه الدمي ، ومن المستفيد ؟ طبعآ هم أولئك الذين لديهم القدرة على طباعة الدولار من لاشئ ، وهم أكثر المعرضين للخسارة إذا إنهار الدولار ، ومنذ عام 1913 إنحصرت التكهنات بل التأكيدات على أن البنك الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي هو المسئول عن كل هذا

اترك رد

%d