الأربعاء, 19 مارس, 2025 , 1:14 ص

100 عام من العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا

بقلم: أحمد عبده طرابيك

تكتسب العلاقات المصرية التركية أهمية خاصة متأصلة جذور المجتمعين المصري والتركي، وذلك بحكم التاريخ المشترك والجغرافيا الاستراتيجية لموقعي البلدين. فقد كانت مصر جزءًا من الإمبراطورية العثمانية لما يزيد عن أربعة قرون، وكانت القسطنطينية “اسطنبول” عاصمة مشتركة لتلك الإمبراطورية، الأمر الذى ترتب عليه تأسيس علاقات بين البلدين ذات روابط وأبعاد مختلفة دينية وثقافية وتاريخية واجتماعية تتسم بالقوة والمتانة إلى حد كبير، حيث أقامت تركيا علاقاتها الدبلوماسية مع مصر في عام 1925 على مستوى القائم بالأعمال، ورفعت مستوى التمثيل الدبلوماسي في القاهرة إلى مستوى السفراء في عام 1948. وهذا العام 2025، تحتفل الدبلوماسيتين المصرية والتركية ومعهما شعبي البلدين بمرور مئة عام على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا.
هذا الحدث الدبلوماسي، بعمقه السياسي والتاريخي، يأتي في مرحلة مهمة سواء على المستوي الوطني لكل من مصر وتركيا، أو بالنسبة للأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، حيث تشهد العلاقات بين مصر وتركيا زخمًا كبيرًا، خاصة بعد الزيارة المهمة التي قام بها الرئيس رجب طيب أردوغان إلى القاهرة في 14 فبراير 2024، والزيارة التي قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة في 4 سبتمبر 2024. حيث شهدت كل من مصر وتركيا زيارات متبادلة عديدة لوزيري خارجية البلدين. يضاف إلى ذلك النشاط الكبير الذي يقوم به سفيري مصر وتركيا كل في البلد الآخر، فالسفير التركي في مصر صالح موطلو شن منذ وصوله إلى مصر وهو يقوم بنشاط مكثف لتنمية وتنشيط العلاقات بين البلدين في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، ويتضح ذلك جليًا من خلال حجم الفعاليات واللقاءات مع المسئولين المصريين، والأنشطة والزيارات الميدانية للمصانع والشركات التركية العاملة في مصر بهدف تشجيع المستثمرين الأتراك على زيادة استثماراتهم في مصر، وجذب السياح الأتراك إلى مصر، وتنمية التبادل التجاري بين البلدين، وتنمية العلاقات الاقتصادية بشكل عام.
رغم فترة الخلاف السياسي بين مصر وتركيا منذ عام 2013 وحتي عودة العلاقات لطبيعتها مرة أخرى، تم الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بشكل متبادل على مستوى القائم بالأعمال، مع عقد اجتماعات بين وزيري خارجية البلدين في مناسبات مختلفة، وواصلت سفارة مصر في أنقرة والقنصلية العامة في اسطنبول والسفارة التركية في القاهرة والقنصلية العامة في الإسكندرية أنشطتها دون انقطاع. بالإضافة إلى ذلك، تم الحفاظ على الروابط الاقتصادية والاجتماعية العميقة الجذور بين البلدين، والتي تدعمها تراث تاريخي مشترك. وظلت أكثر من 3500 مواطن تركي يقيمون في مصر. كما ظلت مصر أكبر شريك تجاري لتركيا في القارة الأفريقية. واستمرت اللقاءات والزيارات المتبادلة والمتكررة بين رواد الأعمال الأتراك والمصريين. وواصل معهد يونس إمرة للثقافة التركية التي تم افتتاحه عام 2010، في مماسة نشاطه بشكل اعتيادي.
اتفقت مصر وتركيا كثيرًا في العديد من القضايا والمواقف، واختلفتا قليلًا في بعض القضايا والمواقف الأخرى خلال القرن الماضي، ولكن ظل يحكم العلاقات بين البلدين سواء في مواقف الاتفاق أو الاختلاف قوة كامنة راسخة أساسها أنه مهما كان حجم الاختلاف فإنه يوجد حد فاصل لا يمكن تجاوزه في تلك العلاقات، وأن الاتفاق في المواقف يزيد الدولتين قوة كبيرة في تحقيق المصالح الوطنية العليا لكلا البلدين.
شهدت العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وأنقرة خلال القرن الماضي العديد من المواقف التي باتت محفورة في ذاكرة العلاقات بين البلدين. ويأتي فقد كانت الدبلوماسية المصرية حريصة على ممارسة دورها السياسي لإزالة التوترات التي تتعرض لها تركيا، مثلما كانت تفعل تركيا، فقد كانت دبلوماسية البلدين حاضرة دائمًا في كثير من المواقف لنزع فتيل الأزمات قبل أن تتحول إلى صراعات، وهذا ما قامت به الدبلوماسية المصرية على سبيل المثال. ففي أكتوبر 1998 اشتدت وتيرة الأزمة السياسية بين تركيا وسوريا، وحشدت أنقرة قواتها على الحدود السورية مهددة باجتياح الحدود إلى الجانب السوري في حال استمرار النظام السوري بدعم حزب العمال الكردستاني وتأمين ملاجئ آمنة لزعيم الحزب عبد الله أوجلان. وتدخلّت مصر وبذلت جهودًا دبلوماسية كبيرة على أعلى المستويات، حيث زار الرئيس المصري دمشق وأنقرة في 6 أكتوبر 1998، لوقف التوتر الحاصل، والتوصّل لحل سياسي يقتضي بحل الأزمة بين البلدين، ونتج عن ذلك توقيع “اتفاق أضنة”، التي وُقِعّت بين البلدين في 20 أكتوبر 1998.
في يوليو 2016، طالب أحد أعضاء مجلس النواب المصري باعتراف البرلمان المصري بما يسمي “المذابح التركية للأرمن”، وقام بجمع عدد من توقيعات أعضاء مجلس النواب، ولكن حكمة الدبلوماسية المصرية كانت حاضرة بقوة لوقف ذلك المشهد الذي لا يليق بتاريخ العلاقات بين البلدين، فلم يتم السماح حتي بإدراج ذلك الطلب في جدول أعمال مناقشات مجلس النواب، ومن ثم تم وأد الفتنة وكأن شئ لم يكن رغم فترة الخلاف السياسي الذي كانت سائدة بين البلدين في ذلك الوقت. يضاف إلى تلك المواقف، التنسيق السياسي والدبلوماسي الدائم لكل من القاهرة وأنقرة لمواقف الدولة الأخري في المحافل والمنظمات الإقليمية والدولية وخاصة في منظمة التعاون الإسلامي، ومجموعة الثماني الإسلامية، والأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها.
شهدت العلاقات المصرية التركية تطـورًا وزخمًا كبيرًا في ظل رغبـة القيادة السياسية في البلدين فـي صناعة مستقبل جديد للتعاون وبناء جسور الثقـة لتوطيد علاقات التعـاون السياسي والاقتصادي والعسكري. حيث تتشارك مصر وتركيا في العديد من الخـواص المشتركة، فكلاهما دولتان كبيرتان في العالم الإسلامي والشرق الأوسط، وعلاقتهما معـززة بأواصر تاريخية كبيرة، كما أنهما متقاربتان فـي حسابات القوى الشاملة وفي التوازن الاقتصادي والعسكري، وتسيطر عليهم البراجماتية والهوية الوطنية والحضارية، ولدى كل منهما مشروع وطني تعمل على تحقيقه في الداخل والخارج. وفي ضوء تلك الخواص المشتركة كان التأسيس للعهـد الاستراتيجي الجديد، حيث تم التوقيع على وثيقة تأسيس المجلس الأعلى للعلاقات الاستراتيجية خلال زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان للقاهرة، ليدشن البلدين عهدًا استراتيجيًا جديدًا في ظل مساعيهما لتحقيق التقارب، في إطار احترام متطلبات الأمن القومي لكل منهما وتعميق الفهـم المتبادل، حيث يتم إجراء حوارات عديدة عبر الدوائر الخارجية والدوائر الأمنية لدى البلدين، حول ملفات العمل المشترك فـي المرحلة القادمة، حيث تسعى تركيا إلى إنهاء حالة الدولة التصادمية وعـودة دولة “صفر مشاكل”. والدخول في عضوية منظمة غاز شرق المتوسط من خلال الدعم المصري. ورفع وتنمية التبادل التجاري مـع مصـر. أما مصر فتسعى إلى تهدئـة الأجواء في ليبيا كأحد شواغل الأمن القومي المصري. وبدء صفحة جديدة مـن التعاون الإقليمي مع تركيا.
تدخل مصر وتركيا القرن الثاني من العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ولديهما دوافـع كبيرة للتقارب وتوطيد أواصر العلاقات فيما بينهما بشكل أوثق، وذلك نظرًا لصعوبة قضايا المنطقة، والتي يصعـب علـى أي دولة مواجهاتها بشكل منفرد، كما أن التنسيق الإقليمي أصبح ضرورة مهمة لحل قضايا المنطقة المؤثرة على مصر وتركيا.

اترك رد

%d