إعداد – عبد الرحمن عوبضة
واحدة من الشخصيات القليلة التي تستحق الكتابة عنها بدون مناسبة، شخصية “روائية” من طراز فريد، ضل المبدعون الطريق إليه حتى الآن، أو ربما عجزوا عن جمع كل هذه الصفات، الجمال والدلال والغواية بالشخصية القوية المسيطرة، صاحبة الموقف الواضح والرأي الجريء، التي لم تعقها بدلة الرقص الشرقي عن النضال السياسي، ما هذه المرأة المستعصية على الوصف والتصنيف؟! سوى أن تكون تحية كاريوكا.
“أنا ثورية من يومي مثل كل أبناء القناة، عمي شنقه الإنجليز ويوم دفنته زغردت نساء العائلة فرحا باستشهاده”.
كلنا نعرف الفنانة تحية كاريوكا … أفلامها وتمثيلها ورقصها … لكن قليلين من يعرفون (التاريخ السري لتحية كاريوكا)، كيف عملت بالسياسة في 4 عصور مختلفة بداية من مهاجمتها للملك فاروق وإحراجه، حتى هجومها على الضبابط الأحرار وجمال عبد الناصر رغم تأييدهم في البداية، وقصة إخفائها للرئيس أنور السادات أثناء أزمة اغتيال أمين عثمان ونهاية باعتصامها ضد قرار مبارك … مشوار من النضال السياسي نستعرضه في هذا التقرير.
بدأت تحية العمل السياسي مبكرا، عندما انضمت لحركة “السلام” بعد انتصارات الاتحاد السوفيتى في ستالنجراد عام 1942، وكانت تقريبا في السابعة والعشرين من عمرها كما يروي المؤرخ اليساري الراحل د. رفعت السعيد.
وأشار المؤرخ شهدي عطية في مقال نشرته مجلة “تلي سينما” إلى مشاركة تحية في نقل السلاح للفدائيين في منطقة القناة، وكانت تنقل لهم السلاح بسيارتها وتخبئها في أرض تملكها شقيقتها “مريم”، بالقرب من معسكرات الإنجليز، وهي المنطقة التي عرفت فيما بعد بـ”تبة مريم” نسبة إلى شقيقتها، وهى المزرعة التي اختبأ بها أنور السادات أثناء هروبه بعد مقتل أمين عثمان 1944، وفي إحدى لقاءات السادات مع الفنانين عام 1978 بعد أصبح رئيسا للجمهورية قال: إنني كنت أعمل مع شقيق تحية كاريوكا، وهنا وقفت لتصحح له قائلة: لا يا ريس إنت كنت هربان.
ومن الروايات التي وصلتنا عن تحية كاريوكا، للتدليل على جرأتها وشجاعتها إنها قالت للملك فاروق عندما التقته في كازينو “الأوبرج”: “مكانك ليس هنا يا جلالة الملك بل على العرش في القصر مما دفعه لمغادرة المكان بعدما شعر بالإحراج” أو قصة شجارها مع الأمير حسن عكا، أحد أفراد الأسرة المالكة وسبه بأمه بعدما حاول إمساك يدها بشكل غير لائق، وأيا كان مدى صدق هذه القصص أو منطقيتها، فإنها تعكس الصورة الذهنية الشجاعة للفنانة تحية كاريوكا بين رفاقها السياسيين.
وفي عرضه لكتاب “حياة الليل في مصر” للكاتب البريطاني رافيل كورماك، أشار الدكتور محمد أبو الغار إلى اشتراك تحية كاريوكا فيما عرف بـ”مجموعة أنصار السلام”، التي تكونت في مصر عام 1950، وكانت اجتماعات المجموعة التي تقام فى بيتها تبدأ بالسياسة وتنتهى بالأغاني الحماسية.
ومع قيام ثورة 1952 أيدت تحية الضباط الأحرار وحركتهم بقوة كما قالت في حوار لمجلة “الكواكب”، مؤكدة أنها أيدت الثورة لوضع حد لطغيان الملك والنظام الفاسد.
لكن العلاقة لم تدم على وفاق، واحتفظت تحية بموقعها المفضل على يسار السلطة، وبدأت في انتقاد الضباط الأحرار، وتم القبض عليها فيما عرف بـ”التنظيم الشيوعي” بعد اقتحام منزلها هي وزوجها الضابط مصطفى كمال صدقي، الذي كان عضوا هو الآخر في حركة التحرر الوطنى “حدتو”، وتم العثور على منشورات سياسية تقول “لقد طردنا فاروقا واحدا والآن عندنا أكثر من فاروق”، قالت بعض الروايات إنها ملكها هى، وقالت روايات أخرى أنها كانت خاصة بزوجها.
ويسرد لنا الكاتب الصحفي سليمان شفيق في حديثه عن “الوجه السياسي للست تحية كاريوكا”، قصة سجن تحية كاريوكا كما رواها له د. رفعت السعيد قائلا: كانت فترة السجن الأولى لتحية كاريوكا فترة نشاط وتفاعل على الأرض داخل السجن، أمضت 101 يوما بالسجن، واختارت لنفسها اسما حركيا “عباس” كانت فيهم صوت السجناء المطالب بحقوقهم، وتحسين معيشتهم وإيقاف التعذيب، بل ونظمت فصول محو أمية للسجينات.
كما وصفت تحية تلك الفترة بنفسها في حوار مع “روزاليوسف” قالت فيه: كانت الزنزانة ضيقة ومظلمة وعطنة الرائحة، جمعوا بها المساجين السياسيين مع الجنائيين … وذكرت في الحوار أنها كتبت مذكراتها فى السجن، لكن الأمن صادرها، وأنها تذكر كل كلمة بها وستعيد كتابتها مرة ثانية.
ومن النضال السياسي للنضال الفني نجد دائما هناك تحية كاريوكا حاضرة تتصدر المشهد، ومما رواه لنا المؤرخون عن سيرة “توحة” أنه في عام 1957 أصدرت وزارة الداخلية قرارا رسميا بمنع رقصة “الروك آند رول” التي تمثل ثقافة الإمبريالية الأمريكية، ثم تبعته بقرار آخر بغد عام واحد بمنع بدلة الرقص الشرقي المفتوحة، وهو ما رفضه الراقصات وعلى رأسهم تحية التي قالت في حوار لمجلة أمريكية تعليقا على القرار: “إن فن الرقص الشرقى وسحره سوف يضيع” … ليتم إلغاء القرار أمام احتجاج الراقصات.
أجرت تحية كاريوكا أول إضراب عن الطعام أثناء فترة سجنها عام 1953، للمطالبة بمنع التعذيب في السجون، ونجحت في وزميلاتها في إيقاف التعذيب.
في عام 1968 قررت تحية كاريوكا الاعتصام أمام باب مسرح “ميامي” بالقاهرة، بعدما قرر شعراوي جمعة وزير الداخلية آنذاك منع عرض مسرحية “كدابين الزفة”، وبعد مفاوضات مع الرقابة تقرر عرض المسرحية بعد حذف نصفها تقريبا.
وعام 1987 دخلت تحية في إضراب عن الطعام، ضمن اعتصام الفنانين بنقابتهم اعتراضا على تعديل المادة 103 من قانون النقابات، الذي يسمح للحكومة بالتدخل في شئون النقابة، الذي وثقه المخرج يوسف شاهين في فيلم “إسكندرية كمان وكمان”.
وعندما سألوها وكانت كبيرة في السن: “ألا تخشين الموت” قالت: “إطلاقا … المهم أن يعرف الجيل الجديد أن من سبقوه كانوا يضحون بكل شئ في سبيل المبدأ”.
ولم يوقف إضرابها عن الطعام سوى تدخل الرئيس حسني مبارك الذي اتصل بها وقال لها مداعبا: “عايزة يقولوا يا ست تحية إنك عشتي تأكلي في عهد فاروق وعبد الناصر والسادات وبعدين تموتى جعانة في عهد مبارك؟!”.