من أهم الأمور التي ظهرت في هذا موضوع اختفاء جمال خاشقجى الصحفى السعودى هى أن قناة الجزيرة القطرية أثبتت بإمتياز أنها سلاح قوي جداً تمتلكه قطر لخوض معاركها .. هذه الدويلة الصغيرة تستعين بجيوش أمريكية وتركية لحمايتها من جيرانها نظراً لعدم وجود جيش لديها بالمعنى الصحيح للجيوش ، لكنها تمتلك قناة الجزيرة أكبر وأخطر قوة إعلامية في منطقة الشرق الأوسط ، وبغض النظر عن التضليل الإعلامي ، والتهويل والمبالغة والأكاذيب التي تذيعها ، لكنها أثبتت أنها تملك الحرفية اللازمة لخوض حروب قطر ، ومساندة القيادة القطرية بتشويه أعدائها وتأليب الرأي العام العالمي ضد السعودية والإمارات ومصر .. لقد قدمت الجزيرة الدروس لكل أجهزة الإعلام العربية ، لكنها دروسٌ في التضليل والكذب وعدم الإلتزام بالمصداقية وتقديم الحقائق . . وللأسف هذه هي الأساليب الرائجة المنتصرة في عالمنا الذي نعيشه الآن ، فلا مكان لشرف الكلمة وإحترام الحقائق .. وحتى لو ظهر جمال خاشقجي مرة أخرى ، وثبتت براءة السعودية ، إلا أن الجزيرة قد زلزلت الدنيا تحت عرش المملكة السعودية ونجحت في تحقيق الأهداف الخبيثة لقطر .. تصوروا ماذا كانت ستقول الجزيرة عن هذه الحادثة لو لم يكن هناك حصار بري لقطر فرضته السعودية والإمارات عليها ، ولو كانت العلاقات الخليجية طيب
ة كما كانت ؟ بالطبع لن تكون هناك تلك الحملة التي تشنها الجزيرة على السعودية الآن ، وفي أحسن الأحوال سيكون إختفاء خاشقجي ، بل حتى إغتياله ، مجرد خبر قصير في نشرة الأخبار .. إنها السياسة والمصالح الإقتصادية هي التي تحدد مسار كل الأحداث العالمية .
وبإستثناء قناة الجزيرة القطرية فإن كل الأجهزة الإعلامية السعودية والخليجية والمصرية تعمدت خلال الأيام الأولى لواقعة الإختفاء إلى إهمال هذا الخبر وعدم الإشارة إليه ولاذت بالصمت .. كذلك إختفى عادل الجبير وزير الخارجية السعودي تماماً ولم نسمع له تصريحاً واحداً ، بينما تولى الأمير خالد بن سلمان سفير السعودية في واشنطن الرد علي الإدعاءات التي تدين السعودية ، ثم بعد ذلك بدأ الإعلاميون السعوديون في الرد على الإتهامات الموجهة لبلدهم ، ووجهوا بدورهم إتهامات صريحة لقطر بأنها ربما تكون هى المسئولة عن هذه الأحداث لتوريط السعودية ، بل وأشاروا لوجود طرف ثالث ضالع في هذه الجريمة ، ربما يقصدون إيران أو تركيا .
وكما ذكرت في بداية هذا المقال أنني ما قصدت الدفاع عن المملكة السعودية ، خاصة أن ولي عهدها له سوابق في إستدراج من يختلف معهم إلى المملكة ، ثم إحتجازهم إما في السجن أو في الفنادق ، حسب القيمة الدولية أو المالية لكل منهم ، وكان منهم أمراء من الأسرة الحاكمة مثل إبن عمه الوليد بن طلال ، و سعد الحريري رئيس وزراء لبنان الذي تم إحتجازه بصفته مواطن سعودي قبل أن يكون رئيساً لوزراء لبنان ، وكانت سابقة في تاريخ العلاقات الدولية لم تحدث من قبل ، مما أدَّى إلى تدخل إيمانويل ماكرون رئيس جمهورية فرنسا للإفراج عنه . . ولو كان ذلك هو حقاً ما حدث مع جمال خاشقجي ، فإن الأمير محمد بن سلمان قد وَرَّط بلده ومن يؤيدونه في مشاكل كبيرة .. إذا تم إختطاف خاشقجي وترحيله إلى السعودية ، فلا هم يستطيعون إظهاره بعد نفي ولي العهد السعودي لوجوده بالمملكة ، ولا هم يستطيعون إعادته إلى تركيا أو أمريكا ، بل لن يستطيعوا حتى قتله خوفاً من ردود الفعل العالمية إذا حدثت هذه الجريمة وتسربت أنباؤها إلى أمريكا وأوروبا .. لو ثبت هذا الإحتمال فإنها بالفعل ورطة كبيرة حدثت نتيجة قرارٍ سعودي أحمق .
ولو ظهرت جثة جمال خاشقجي ، فإلى أين ستتجه بوصلة الأحداث . . بالطبع ستكون السعودية هى المتهم الأول ، حينئذ يحق لنا أن نسأل : هل أصاب الجنون والهبل القيادة السعودية لتتخذ مثل هذا القرار ، وتقتل صحفياً سعودياً معارضاً يكتب في جريدة واشنطن بوست ، بينما الساحة الإعلامية العالمية معبأة بمظاهرات الغضب ضدها لما تفعله باليمنيين ؟
لا أريد أن أستبق الأحداث وأبدو أمامكم في صورة من تصح تنبؤاته .. لكني أتَوَقَّع . . فقط أتَوَقَّع دون أدنى تأكيد لتوقعاتي .. ألا يتم كشف السر لمدة طويلة ، ولن تُعْرَفَ حقيقة إختفاء جمال خاشقجي في المستقبل القريب ، ولسوف تخف بالتدريج حدة المطالبات بالكشف عن مصيره إلى أن تتلاشى وينساه العالم ويذهب كلُّ خِلٍّ إلى خليله .. ذلك لأن حقوق الإنسان تتضاءل أمام المصالح الإقتصادية والسياسية .. نعم فإن ضياع حقوق الإنسان أصبح عملة جديدة ، تتعامل بها الدول والمؤسسات والشركات لتحقيق مصالحها ، ولعلكم سمعتم وشاهدتم أمس الرئيس ترامب وهو يقول أنه لا يستطيع التضحية بفقدان مليارات الدولارات من أجل قضية شخصية لم تثبت حتى الآن .. هذا هو الحال في عالم المصالح الذي نعيشه الآن .
كاتب المقال – الباحث والمستشار السياسى لجريدة ” الوطن المصرى”