عشت ومازلت سنيناً طويلةً في منطقة الخليج قابلت خلالها بحكم عملي أعداداً كبيرة من المصريين . . فقد لاحظت تغيب بعضهم لفترات طويلة ، حيث كانوا يجمعون إجازاتهم السنوية ويدخرونها ثم يستخدمونها في رحلة طويلة ، وعند عودتهم أسألهم عن سبب تغيبهم فتكون الإجابة واحدة من كلٍ منهم : ” الجهاد في سبيل الله ” . . أحاول أن أستفسر منهم أكثر ؛ فيخبرونني بمزيد من الحذر ، وعيونهم تمسح المكان لتتأكد من عدم وجود شخص آخر يستمع إلينا ، أنهم كانوا يجاهدون في أفغانستان ليطردوا المستعمر السوفييتي الشيوعي الكافر الذي إحتل أراضي المسلمين في أفغانستان !! طبعاً لم يذهبوا للجهاد الا بعد أن حصلوا على المقابل المالي من شخصيات مرتبطة بالسعودية، ولو لم يحصلوا على المال فلا جهاد ولا يحزنون . . كان ذلك في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات . . تغيرت شخصياتهم بعد رحلة الجهاد هذه تغيراً كبيراً ، وأصبحوا أشخاصاً غير الذين كنت أعرفهم . . تغيرت طبيعتهم المرحة الضاحكة ، وتحولت إلى العبوس والرفض لكل ما حولهم ، تفاعلهم مع أقاربهم وأصدقائهم وزملائهم وجيرانهم تحول الى تكفير المجتمع بأسره . . سلموا عقولهم إلى أفكار غريبة أصولية متطرفة ، ودانوا بالطاعة والإنقياد والنصرة والولاء لشخص معين لقبوه بالأمير ؛ أمير على عقولهم ؛ يرجعون إليه في كل شئ ، ويأخذون الأوامر منه فقط دون غيره ؛ أي أنهم أصبحوا بمثابة ما سُمِّىَ أمنياً بالخلية . . بعد فترة قصيرة من عودتهم من أفغانستان رجعوا لمصر ، وإنقطعت أخبارهم عني سوى واحد فقط علمت أنه فقد السيطرة على عقله ثم إنتهت حياته بالإنتحار .
إستبد بي القلق على مصر بعد عودة هؤلاء التكفيريين الرافضين للمجتمع ، وكتبت عدة مقالات أحذر فيها من تنامي هذا التيار التكفيري داخل مصر ، فقد إنتعشوا في عهد السادات الذي إستخدمهم لضرب اليساريين والشيوعيين والناصريين وفي النهاية كانوا هم من قتلوه . . لن أنسى عندما كنت طالباً بكلية طب قصر العيني جامعة القاهرة مشاعر الحزن التي إنتابتني عندما إكتسح هذا التيار المتطرف إنتخابات إتحاد الطلاب في كلية الطب ، ثم في جامعة القاهرة ، وحدث مثل ذلك في كل جامعات مصر ، وكان دكتور عبد المنعم أبو الفتوح من زملائي في كلية الطب وأحد أشهر القيادات الطلابية التي نجحت في هذه الانتخابات . . كنت أؤمن أن هذا التيار الذي يتمسح بالدين الاسلامي سوف يفرز بيئة صالحة لنمو الأفكار المتطرفة التي تعتنقها جماعات طالبان والقاعدة وداعش الإرهابية ، وهذا بالفعل ما حدث .
كذلك عندما كنت طالباً في كلية طب قصر العيني لم تكن هناك في دفعتي سوى طالبة واحدة محجبة ، والباقيات غير محجبات . . بينما الآن لا توجد في نفس الكلية أية طالبة مسلمة غير محجبة ، فجميع الطالبات محجبات ماعدا المسيحيات منهن . . كأن الإسلام لم يظهر لنا إلا في السنوات الأخيرة . . أي منذ أربعين عاماً فقط ، وكأننا لم نعرف الاسلام الا بعد عودة من أسموا أنفسهم بالمجاهدين من أفغانستان .
الأصولية الوهابية هى الوجه الآخر من عملة التطرف الديني ، فلا عجب أن أمريكا والدول الأوروبية والآسيوية تنطلق إلى فضاء العلوم والمعرفة بينما نغرق نحن في الجهل والتخلف ، نحن من فرضنا على أنفسنا هذا الوضع ، وليس من العدل أن نتهم أمريكا وأوروبا وإسرائيل بأنهم السبب في تخلفنا . . بعض أئمة المساجد الأصوليين عندنا يتحدثون عن رضاعة الكبير ، وعن العلاج بالعسل والثوم والتوابل ، بينما في الغرب يعالجون الآن السرطان بإستخدام الخلايا الجذعية . . نحن نحبو في هذا الفرع من فروع الطب ، ولولا محاولات فردية يقوم بها بعض الباحثين والعلماء في مصر ، لما عرفنا شيئاً عن العلاج بالخلايا الجذعية . . هل تعرفون أن واحداً من أشهر الأطباء العالميين الذين يعالجون بالخلايا الجذعية في أمريكا ، هو طبيب مصري تخرج من جامعة الإسكندرية إسمه دكتور ” فؤاد غالي Fouad Ghaly ” ، ويعيش الآن في لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا ، حيث يدير مركزه الخاص للعلاج بالخلايا الجذعية ، ولا أدَّعي أنني أتابع بدقة ما يحدث حالياً في الجامعات ومعاهد البحوث الطبية المصرية ، لكنني أعرف المحاولات الجادة المخلصة التي يقوم بها في المنصورة العالم الكبير الأستاذ الدكتور محمد غنيم Mohamed A. Ghoneim وفريق من الباحثين في مجال العلاج بالخلايا الجذعية Stem Cells ، وأعرف أنهم توصلوا لنتائج مشجعة جداً رغم قلة الإمكانيات المتاحة لهم . . في الغرب إخترعوا الروبوت الجراحي الذي يقوم بعمليات جراحية دقيقة جداً في أماكن يعجز الجراحون البشر عن الوصول إليها ، وإن وصلوا إليها لا يحققون النتائج المبهرة التي يحققها الروبوت من حيث الدقة . . وحديثاً توصل العلماء في جامعة ستانفورد بأمريكا إلى علاج السرطان بحقن الخلايا الليمفاوية المتورمة بلقاح جديد يعمل على تحفيز جهاز المناعة .
أعلم أنه ليس من العدل أن نُحَمِّل الإسلام أو أي دين مسئولية الفشل الذي نعاني منه والتخلف العلمي الذي نعيشه . . بالتأكيد هناك عوامل أخرى ، وهناك فارق كبير بين الأديان وبين ممارسات أتباع كل ديانة . . لكن علينا أن نواجه أنفسنا بمنتهى الوضوح والصراحة ، فإلى متى يستمر هذا التخلف الذي نعيشه ، ولماذا لا نأخذ بأسباب التقدم العلمي كما فعلت الدول الأخرى . . إذا لم نستيقظ من سباتنا ، ستزداد الفجوة الكبيرة التي تفصلنا عن هذه الدول . . علينا أن نتحرك ، ولا نخشى أن نتعثر ، فأنا لم أسمع عن شخص تعثر وهو جالس ، المهم هو أن ننهض من عثرتنا ونكمل طريقنا ، فالإنسان يمكن أن يغير حياته ، إذا ما إستطاع أن يغير إتجاهاته العقلية ، ولن يصل الناس إلى حديقة النجاح ، دون أن يمروا بمحطات التعب والفشل واليأس ، وصاحب الارادة القوية لا يطيل الوقوف في هذه المحطات .