الجمعة, 22 نوفمبر, 2024 , 7:48 ص

د. حسن صابر يكتب : بمئات المليارات . . أمريكا تبيع الخوف للعالم

 

( الجزء الأول )  

القوة الخفية التي تحكم العالم وتحدد إتجاهات الأحداث بما يحقق لها مصالحها ويتوافق مع أغراضها

أمريكا المستفيد الأول من التهديد الكوري الشمالي ،وهى من يعمل على تسخين الموقف

 

 

لا تكفي التكهنات أو الخبرات الشخصية لمعرفة ما ستؤول له الحالة الكورية الشمالية ، وهل ستجر العالم إلى أحداث خطيرة قد تتطور إلى حرب عالمية نووية ، أم ستبقى كما هى سجالاً بين الدول المعنية تتكرر بين الحين والحين ، دون أن تصل إلى المرحلة الحرجة . . لكن الفضول الإنساني وربما القلق يدفعان إلى التفكر بإمعان في العوامل الآتية :

أولاً : عوامل تتعلق بالمؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الدول المعنية مباشرة ( روسيا والصين وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية واليابان )

ثانياً : عوامل تتعلق بالقوة الخفية أو العائلات التي تحكم العالم وتحدد إتجاهات الأحداث بما يحقق لها مصالحها ويتوافق مع أغراضها .

أولاً – المجموعة الأولى من العوامل التي تتعلق بالمؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية والدول المعنية :

1- المصالح الإقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة الأمريكية : بلاشك فإن أمريكا هى المستفيد الأول من التهديد الكوري الشمالي ، وهى من يعمل على تسخين الموقف ، وتصعيد الذعر في كلٍ من اليابان وكوريا الجنوبية . . مفاتيح اللعبة كلها في يد الولايات المتحدة الأمريكية ، تلعب بالمشاركين فيها كما تشاء . . لديها خبرة كبيرة وتاريخية في مثل هذه اللعبة التي تصنع فيها غولاً يهدد جيرانه ، وتستخدم الخيوط ليبدو الغول في صورة وحشية ، وكلما تقدمت مراحل اللعبة يزداد رعب الجيران إلى أن يصلوا إلى مرحلة طلب العون والإغاثة من أمريكا صانعة اللعبة والمحرك الأساسي فيها . . حينئذ تتحقق المصالح والأغراض التي من أجلها صنعت هذه اللعبة  . . إنها مسرحية سياسية على مسرح العرائس Political Puppet Show تحرك فيها أمريكا كل أطراف الأزمة كما تشاء . . ولقد تكررت هذه المسرحية عدة مرات من قبل ، وفى مناطق مختلفة بالعالم :

– حدثت في العراق ولعب صدام حسين دور الغول الذي يخيف جيرانه ، لكن صدام كان رجلاً قومياً ، وليس هو من يهدد جيرانه وينقض عليهم ، كما أن بلده العراق غنيٌ وليس في حاجة لمهاجمة أحد ، وكان لابد من إفقاره وإنهاك إقتصاده ، فإستغلوا توتر علاقاته بجارته إيران بعد قيام الثورة الإسلامية حتى وصل ذلك التوتر إلى حرب حقيقية إستمرت ثماني سنوات  ، كانت خلالها أمريكا وكل من يدور في فلكها يقدمون المساعدات العسكرية للطرفين لإشعال النار بينهما كلما أوشكت الحرب أن تنتهي ، حتى أُنْهِكَت الدولتان ، ودُمِّر إقتصادُهما ، وهل هناك أخطر من الحروب لتدمير البلاد ، فما بالكم بحرب إستمرت كل هذه السنين ، تحول بعدها صدام إلى وحش جائع ، يقع على حدوده بلد صغير غني جداً هى الكويت ، يعتبرها تاريخياً جزءاً من العراق ، وبينهما نزاعات حدودية على الثروات البترولية ، وبالتأكيد فإن امريكا بكل ما تملك من أجهزة استخباراتية أدركت نية صدام حسين لغزو الكويت ، لكنها لم تحاول أن تمنعه ، ولم توجه له إنذاراً واحداً ، حتى حدث الغزو ، وبعد ذلك إتجهت الأحداث لنفس المسار الذي حددته أمريكا ، وحصدت أمريكا ثمار هذه اللعبة الشيطانية ، واستوطنت دول الخليج لحماية مصالحها في الثروة النفطية الخليجية .

– وليست الحملة الإنتخابية لترامب بعيدة ، وكلنا نتذكر ما تضمنته خطب ترامب حول موقفه من قضايا  كثيرة ، ومنذ فاز في الانتخابات وبدأ فترة رئاسته الأولى وهو ينفذ غالبية الوعود التي وعد بها ، إلا وعداً واحداً لم ينفذه حتى الآن ويماطل في تنفيذه وهو إلغاء الإتفاقية النووية مع إيران والتي يسهل إلغاؤها خاصة بعد رفض الكونجرس الأمريكي لها ، ولولا الفيتو الذي استخدمه الرئيس باراك أوباما ضد قرار الكونجرس ما دخلت هذه الإتفاقية حيز التنفيذ . . لكن ما سبب نكوص ترامب عن تنفيذ وعده حتى الآن ؟ الأمر واضح وقد تنبأت به في مقالاتي السابقة ، قبل ان ينجح ترامب في الإنتخابات . . فإن إستمرار هذه الاتفاقية رعب لدول الخليج ، وتحفيزٌ لها لشراء أضخم صفقات من الأسلحة الحديثة بمئات المليارات من الدولارات تدفعها لأمريكا لمواجهة الخطر الإيراني ، وهذا ما فهمته إسرائيل أيضاً ولهذا توقفت عن معارضتها للإتفاقية النووية مع ايران ، أما الإدعاء أن إلغاء الاتفاقية مع إيران كان يعني أن إيران أصبحت في حِلٍ من أي موانع تمنعها من انتاج القنبلة النووية ، فذلك أمر هين يمكن لأمريكا وحتى لإسرائيل من التعامل معه بضرب المفاعل النووي الإيراني . . اذن ليس السبب في عدم إلغاء امريكا للإتفاقية هو الخوف من القنبلة النووية الايرانية ، بل هو تعميق مشاعر الخوف في دول الخليج ، واستغلال هذا الخوف لتحقيق المكاسب التي حصل عليها ترامب خلال زيارته للمنطقة . .  ولا أستبعد بعد ذلك وبعد أن حصد هذه المكاسب أن يعلن عن إلغاء الاتفاقية النووية مع ايران وتحديداً قبل 15 أكتوبر 2017 ، ولولا ذلك الخوف لما استوردت دول الخليج هذه الأسلحة المتقدمة ، ولخسرت شركات السلاح الأمريكية هذه الصفقات المربحة جداً . . إن غريزة الخوف هي أقوى الغرائز على الإطلاق ، أقوى حتى من غريزة البقاء .

– كل الدلائل تشير إلى أن داعش هى صناعة أمريكية ، صنعتها أمريكا من بقايا الجيش العراقي الذي إنهار على يديها ، وأسندت لها مهام خطيرة لتؤديها بالنيابة عن الجيش الأمريكي ، وبالطبع فإن حلفاءها في المنطقة هم من يقدمون الدعم المالي واللوجيستي لداعش ، وعندما تقرر أمريكا أن مهمتها قد إنتهت في العراق وسوريا فإما أن تنهيها وتقضي عليها كما صنعتها ، أو أن تنقلها إلى منطقة أخرى مثل ليبيا لتنفيذ عمليات تدميرية مماثلة في ليبيا ومصر وتونس والسودان .

ولو توغلنا في التاريخ ، لأمكنني أن أذكر لكم العديد من الأحداث المماثلة ، منذ الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، وحتى الآن لا يوجد أي أمل ماثل أمامنا بتوقف هذه المؤامرات على بلادنا وثرواتنا .

أما في هذه اللعبة فإن ” كيم جونج أون ” زعيم كوريا الشمالية هو الغول ، ونتيجتها حتى الآن هى تهافت اليابان وكوريا الجنوبية على شراء منظومة المظلة الصاروخية الأمريكية الصنع لتحمي سماء كل من البلدين بمئات المليارات من الدولارات . . والمضحك هنا في هذه اللعبة الخبيثة أن يعلن الرئيس الأمريكي ترامب أنه تفضل وتكرم ووافق لليابان وكوريا الجنوبية أن يتسلحا بالأسلحة المتقدمة غير التقليدية وهو ما كان محرماً من قبل على الدولتين . . لكن من اين سيحصلان على هذه الأسلحة ؟ طبعاً من مصانع التكنولوجيا العسكرية الأمريكية . . وهل كان ترامب سيسمح للدولتين بالحصول على هذه الأسلحة من روسيا ؟ بالطبع لا . .

هل تذكرون عندما هدد ترامب دول الخليج ، واليابان وكوريا الجنوبية أثناء حملته الانتخابية بأن عليهم أن يدفعوا ثمن الحماية الأمريكية لهم . . هل هناك شك الآن أن ترامب نفذ تهديداته ، وأنه كان يعي ما يقول وصرح به ، ولم يكن الأمر مجرد تهديدات . . لقد هدد ونفذ ، ودفعت دول الخليج ، وستدفع اليابان وكوريا الجنوبية .

2- روسيا والصين حتى الآن يعلنان أنهما لا يوافقان على كوريا شمالية نووية ، ومع ذلك فهما يطلبان تهدئة الأزمة ، وعدم دفع الأمور إلى الكارثة ، ويشيران  إلى أمرين :

– ضرورة حل الأزمة بالمفاوضات

– ضرورة استبعاد الحل العسكري

3- اليابان لا تنسى ما حدث لها يوم الاثنين 6 أغسطس عام 1945 حين ضُرِبَتْ هيروشيما بأول قنبلة ذرية في التاريخ ، وسقط على اثرها 350 ألف ياباني قتيل وملايين المشوهين ، ثم ما حدث بعد ذلك بثلاثة أيام يوم 9 أغسطس 1945 حين ضربت ناجازاكي بثاني قنبلة ذرية في التاريخ . . عقدة الخوف هذه جعلتها تنتفض لحظة ان عبر صاروخ كوري سماءها وداخل حدودها وانفجر في البحر ، ثم بعد ذلك بأيام فجرت كوريا الشمالية قنبلة نووية تحت الأرض ، قدر الخبراء قوتها بست عشرة 16 مرة قوة القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما وكان من الطبيعي ان تلجأ اليابان فوراً الى امريكا لطلب الحماية . . فاليابانيون يتشبثون بالخوف عندما يريدون أن يحتفظوا بأقصى درجات الأمان  . . وشخصياً اعتقد ان الارتباك الذي ظهر من الحكومة اليابانية ربما يدفعها الى طلب رفع العقوبات التي فرضت عليها عقب هزيمتها في الحرب العالمية الثانية ، لتبدأ ثورة صناعية في مجال الأسلحة التكتيكية والاستراتيجية وربما النووية ،  توفر الحماية للشعب  الياباني ولإنجازاته الاقتصادية والعلمية .

4- كوريا الجنوبية هى العدو التقليدي لجارتها ونصفها الآخر كوريا الشمالية ، ولدى كل منهما حلم بتوحد الكوريتين لتصبحا جمهورية كوريا المتحدة . . لكن متى يحدث ذلك :

– هل بعد أن تتعرض كوريا الجنوبية الى ضربات نووية من كوريا الشمالية ؟

– او بعد ضربة نووية أمريكية لكوريا الشمالية ؟

– أو بعد حرب كونية ثالثة تُدَمَّر فيها كوريا ؟الشمالية ؟

– أو بعد عمليات استخباراتية يتم فيها اغتيال الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون  ، ومن ثم إسقاط النظام الشيوعي الذي يحكم كوريا الشمالية ؟

5- وعندما أذكر كوريا الشمالية فذلك بالطبع يعني زعيمها كيم جونغ أون . . هكذا تجري الأمور في الأنظمة الديكتاتورية ، وهناك مجموعة من التساؤلات تطرح نفسها بقوة :

* هل هو زعيم صغير تنقصه الخبرة ؟

* هل يلعب بالسلاح النووي كما يلعب الطفل بألعابه ولا يدرك خطورة هذه اللعبة ؟

* هل هناك تنسيق سري بينه وبين أمريكا لإبتزاز اليابان وكوريا الجنوبية ؟

ومهما كانت الإجابات ، فمما لاشك فيه أن  هناك خطوط حمراء يعرفها جيداً كل من ترامب وكيم جونج أون ، ويدركان أن لو أحدهما أو كلاهما تخطيا هذه الخطوط الحمراء فذلك معناه الاقتراب من كارثة كونية  . . ترامب أقام الدنيا على كوريا الشمالية واستصدر قراراً من مجلس الأمن بفرض عقوبات جديدة على كوريا الشمالية ، ومن جانبه فقد تصاعدت تهديدات كيم جونج أون حتى وصلت إلى حد نيته بإغراق اليابان وتدمير أمريكا . . وكل ذلك لزوم الحبكة والإثارة في هذه اللعبة السياسية.

( كاتب المقال المستشار السياسى لجريدة ” الوطن المصرى”  )

          (يتبع الجزء الثاني غداً)

اترك رد

%d