بقلم – عادل اسكندر
أشعر بالحنين لبلادي ولذكرياتي، ويذكرني الشتاء دائماً بدفء مصر وأهلها وحنية شعبها.. تأخذني فترة الأعياد إلى ذكريات الطفولة والشباب، ولكن الحقيقة أنها ذكريات أجيال أنا واحد منها وسط زملاء المدرسة والجامعة والقوات المسلحة .
مازالت أيام الأعياد تعيدني للذكريات الرائعة ونحن في انتظار عودة صاجات الكعك والبسكوت من الفرن، ونحن نسارع لأكله فور وصوله وصدقوني مازلت أشعر بحرارة ودفء الأفران وزحمة عمل الكعك وجميع أبواب الجيران مفتوحة، فقد كنا نقطن في ذلك الوقت بالدور الثاني، وأتذكر جيداً اننا لم نتوقف لحظة واحدة من الطلوع والنزول مع أولاد الجيران، وأقسم بالله العظيم بأنه لم نكن نعلم في ذلك الوقت من مسيحي ومن مسلم! الكل يحتفل ويشارك ويلبس الملابس الجديدة، وكنا نتسارع لشراء البمب، والله وأنا أكتب هذه السطور لازالت في ذاكرتي هذه الأوقات المليئة بالألفة والمودة حتى الآن…
نحن جيل يملك ذكريات وحنين ولذلك فنحن نحِنُّ دائماً لذكرياتنا وشوارعنا ومنازلنا لأنها تحمل ذكرى أجمل أيام حياتنا، نحن جيل لم يكن مرفَّهاً ولكن كنا سعداء، لم نملك ماكانت تملكه الأجيال التي جاءت بعدنا من عربيات آخر موديل والسوبر ماركت والمصايف والموبايل والتكنولوجيا الحديثة، رغم أنها وجدت لإسعاد وخدمة العالم إلاّ أنها أطاحت بغالبية الذكريات والعادات، فالآن ترسل رسالة إلى المئات( كل سنة وانت طيب) وكمان معها صورة.. وموسيقى.. وأغنية، لكن انا واثق انها لاتحمل نفس المشاعر والعواطف التي تربى عليها جيلي.
نحن الجيل الذي لم يتاجر بالدين لأننا لم نكن نعرف إلاّ أننا جميعاً أبناء مصر، أولاد حتة واحدة وزمايل نفس المدرسة والجامعة.. حتى أيام الشقاوة كانت تجمعنا ونحن لا نعرف فرقاً.. ليه؟ لأننا تعلمنا الحب والشراكة والتعاون لمجابهة الحياة، لقد كان الجار أكثر من صديق وأخ.. الآن ياخسارة الجيران قد لاتعرف بعضها، كله مشغول وكله يتكلم في الموبايل وكله على الكافيه..
وأصدقكم القول بأننا حتى يومنا هذا، عندما نلتقي وبعد مرور تلك السنوات نشعر بالمحبة والمودة التي تربينا عليها.
كان بيت العائلة يجمعنا في الأعياد والمناسبات والسهرات ولذلك احتفظنا بالعلاقات الأسرية والصداقات لسنوات طويلة.
عزيزى القارئ هذا الجيل هو الذي لم يملك رفاهية السيارات والتعليم الخاص والدروس الخصوصية والملابس المستوردة.
نحن ذلك الجيل الذي كان يقف في حوش المدرسة ليحيي العلم مردداً تحيا مصر تحيا مصر تحيا مصر.. وكانت مادة التربية العسكرية إلزامية علينا جميعاً.
نحن جيل كازينو ميامي وبلاج المنتزه ومحلات الزفيريون في أبو قير والأمور فى جليم وسوق الإبراهيمية وسعد زغلول، نحن الجيل الذى لم يخجل من قلة إمكانياته، وكان سعيداً وراضياً بما يجد من مشروبات السينالكو والاسباتس والفانتا والبيرة ستيلا ونبيذ عمر الخيام.
هل تتذكر عزيزي القارئ أننا جيل إذا عاكس شاب فتاة كان يُحلق له شعره على الزيرو حتى يعلم الجميع أنه تطاول على فتاة وجرح إحساسها، فلم نكن نسمع عن اغتصاب وتحرش وسفالة كما نرى ونسمع اليوم..
نحن الجيل الذي احترم المرأة (الأم. الأخت. والزوجة )لأنها نصف المجتمع والأهم أنها التي تربي الأجيال.
نحن جيل ام كلثوم وسيد مكاوى وعبد المطلب وعبد الحليم حافظ فكان كل ما لدينا هو الراديو الترانزستر، وبعده التليفزيون أبيض وأسود.
هذه ذكريات جيل.. فهل الأجيال الحديثة تملك هذه الذكريات؟
لقد تخرجنا من الجامعة والتحقنا بالقوات المسلحة في عز هزيمة ١٩٦٧ عندما كان البلد يعاني من مشاكل غير عادية تطحن الروح المعنوية للشعب من جميع الجهات،بالإضافة لعدم وجود السلع الكمالية المستوردة من ملابس وبرفانات ولاتشكيلة المكسرات، لم يكن أمامنا إلاّ الفول السوداني وحمص سيدنا البدوي ومع ذلك عشنا فى بيوت كلها خير وعز.. لم يكن في أيامنا، السوبر ماركت وبه مئات الأنواع من المواد الغذائية المستوردة تحتار فيها الناس، كانت أمهاتنا أشطر من مئة مؤسسة تموينية وإنتاجية وكانوا فاتحين بيوت عمرانة بالخير والمحبة والتضحية..
أعتقد أن هذا الجيل مازال يذكر مربى البلح بالقرنفل واللارنج والفراولة ومربى الجزر الأحمر..
ونجحت امهاتنا في توفير طلبات منازلنا دائما،ً حتى مخلل الزيتون الأخضر بالجزر والكرفس والليمون المعصفر والفلفل، أما المشمش والعنب كان بيتنشف علشان رمضان..
وأذكر جيداً أن إفطار رمضان كان بمثابة لقاء المحبة على طاولة الإفطار وذكريات ما بعد الإفطار والسهر وقهوة الفيشاوي في سيدنا الحسين وناكل رز باللبن بالزبيب..
كنا سعداء ونحن نذهب إلى البقال على الناصية لشراء مستلزماتنا، لم نبالغ فى شكوانا ولم نتطلع إلى الجبن المستورد والمشروبات المستوردة والشكولاتة، لم نكن نملك إلاّ الانتاج المحلي من جروبي.
أيام وذكريات جمعت هذا الشعب في محبة ونجحنا ان نمر من الأزمة ونشيل بعض، ورغم قلة موارد البلد في ذلك الوقت لكننا كنا جميعاً نعلم جيداً أننا نبني جيشنا حتى نستطيع استعادة أرضنا المحتلة وأن نستعيد كرامتنا ونحول الهزيمة إلى نصر ونجحنا.
لا أعلم ماذا حدث للشعب بعد انتصارات أكتوبر في ١٩٧٣ وفرحة العبور والانتصار دخلنا في مرحلة الانفتاح وبسرعة البرق شاهدنا محلات الهمبرجر تحل محل محلات الفول والطعمية والكشري. وتغير اسم القهوة إلى كافية وبدأ الغزو للانفتاح الغربي، واستبدلنا كل حاجة كل حاجة ونحن في مرحلة فقدان التوازن، وبدأ الغزو للفيلات والمبانى لتتحول إلى ابراج اسمنت صماء بلا مشاعر الجيرة وبلا محبة الجيران، وخرجنا إلى عالم بلا مشاعر عالم لايعرف إلّا الملايين والشاليهات والإحتياجات المستوردة، وتحولنا إلى شعب استهلاكي حتى المصيف بعد ما كانت الاسكندرية تشهد علينا وعلى شبابنا وتاريخنا وذكرياتنا أصبح الناس يسافرون إلى أوروبا للمصيف والعلاج في أمريكا وتحولت البلد إلى بوتيكات لآخرصيحات الموضة
وانتشرت الجامعات الخاصة والتعليم والعلاج الخاص وكله بقى خاص، كل هذا اطاح بالمنتجات المصرية التى تربينا عليها ومع الزيادة، أقصد الإنفجار السكاني.. زاد الإستيراد وزادت المكاسب وزادت الفلوس وأصبحنا بلداً بها أكبر عدد من المليونيرات، وانتشر وزاد الجشع والفساد وخرجت إلينا جرائم لم نسمع عنها من قبل في مجتمعنا.
وماتت مشاعر الوطنية وحب البلد والتماسك من أجل انتصار بلادنا على مشاكلها..
وأصحبنا نستورد من القلم الرصاص حتى الصاروخ وانشرت العديد من الصناعات حتى المنتجات الزراعية والمفروض اننا بلد زراعي أصبح المستورَد في الأسواق أكثر بكثير من المحلي بعد تفتيت الرقعة الزراعية مع قوانين تحديد الملكية..
وها نحن الآن نمر بمشاكل اقتصادية، من تلك التراكمات التي فرحنا بها وتحولنا إلى بلد استهلاكي في كل حاجة فهل يمكن ان نعود مرة أخرى إلى تلك الأيام ونأخذ منها عظة ودرساً في أن نحكم مطلباتنا حتى نمر من عنق الزجاجة.
أعتقد أن مهما أصدرت الحكومة من قرارات وأحكمت الإستيراد لابد من إعادة ثقافة استخدام المنتج المصري، طبعاً بعد أن يصل لدرجة من الجودة وان يكون متوفراً حتى لا نحتاج إلى الإستيراد بهذا الكم المخيف !!
فقد تعلمنا كمهاجرين فى كندا كيف ندبرأحوالنا وكيف نقتصد وكيف نعيش على قدر دخلنا، فثقافة التدبير والعيشة في حدود المستطاع والإهتمام بالأسرة والأولاد، هذه الثقافة يحتاج لها الشعب المصري الآن حتى نتعامل مع مشاكلنا بشكل وبطريقة عملية بدلاً من الشكوى من قلة السكر وغلاء البسطرمة… و… و…
والحقيقة أن هذا البلد لن يقوم إلاّ إذا كان هناك إنتاج وعمل فى ظل استغلال التكنولوجيا الحديثة بعيداً عن الإستيراد لايمكن ان نقوم على اساس المنح والتبرعات والسلفيات من البنك الدولي..
ورغم كل القوانين للحد من الاستيراد يظل الأهم فقط هو الاستثمار من الداخل ومن الخارج وإقامة المصانع لتوفير الناتج المحلي لحل كل مشاكلنا من بطالة وارتفاع أسعار ولابد من توفير مناخ استثماري بعيداً عن كل العبارات الرنانة والبرامج التليفزيونية المملة، وهذا ما تبناه الرئيس السيسي في مؤتمر الاستثمار الأول والثانى لتوفير الجو الصحي للإستثمار والمستثمرين وللقطاع الخاص وتأكيد إعادة تشغيل المصانع المغلقة بكامل طاقاتها لتوفير احتياجات الشعب من السلع الغذائية فى أقرب وقت، وقد وضع سيادته جدولاً زمنياً لازماً لجميع الوزارات للعمل على أساسه.
إن المجتمع المصري لايحتاج الآن إلى محاضرات ومناظرات وخبراء في التليفزيون وحلقات كلامية لقد أصبح واضحاً وضوح الشمس أن التقدم الاقتصادي والاستثماري والسياحي هم أعمدة هذه المرحلة وهي طوق النجاة للشعب المصري، هذا وإن كان يحتاج لبعض الوقت ولكنه الحل الوحيد ولابديل له، وعلينا استعادة روح أجيالنا القديمة في هذه المرحلة وربط الأمة، والتخلي عن الرفاهية
والكماليات ولو لفترة، حتى نستعيد زمام الموقف ونستثمر مرة أخرى كما فعلنا من ١٩٦٧ إلى سنة ١٩٧٣.
وبمناسبة الأعياد ومع نهاية عام وبداية عام جديد والميلاد المجيد لملك السلام أتمنى أن يعم السلام والمحبة علينا جميعاً، وأن يكون هذا العام عاماً جديداً يحمل لنا ولبلادنا الخير والمستقبل والسلام والأمان.
كاتب المقال رئيس جمعية الصداقة المصرية الكندية