خاص لـ ” بوابة الوطن المصري “
ليست الصداقه هى البقاء مع الصديق وقتاً اطول ، بل إن الصداقة هي أن تُبْقِي على العهـد حتى وإن طالت المسافات او قصرت . . الصداقة هى محمد غنيم
عندما بدأت ممارسة مهنة الطب ، تعلمت من أساتذتي في كلية طب قصر العيني جامعة القاهرة أن أعتبر كل حالة مرضية خطيرة إلى أن يثبت العكس بالفحوص المعملية والأشعة والمناظير ، إذا ثبت العكس فالحمد لله ، وإذا تم تشخيص المرض فالحمد لله أيضاً أن تم التشخيص مبكراً قبل أن يستفحل وتحدث المضاعفات التي يتعذر حينئذ علاجها أو التعامل معها . . وقد يختلف معي بعض زميلاتي وزملائي في المهنة بحجة أن هذه الطريقة تكلف الجهة الممولة تكاليف مرتفعة ربما لا تتوفر في مصر أو في أي بلد آخر . . وأقول لهن ولهم أن الجهة الممولة إما أن تكون واحدة من الفئات الثلاث الآتية :
1- إما المريض نفسه
2- أو جهة عمل المريض سواء كانت حكومية أو خاصة أو عسكرية أو رياضية
3- أو شركات التأمين الخاصة أو الوطنية
ومن واقع خبرتي فإن تكاليف علاج المريض تزداد بصورة كبيرة لو أُهْمِلَ علاجه ، أو لم يتم التعامل معه بالأسلوب العلمي الدقيق الذي يعتمد ليس فقط على الفحص السريري الإكلينيكي بل يجب أن يشمل الفحوص المعملية ، وقد بدأت شركات التأمين الطبي في تشجيع المُؤَمِّنات لديها على عمل فحوص طبية جماعية Mass Examination حَتَّى لو لم تكن هناك أية أعراض أو شكاوي مثل عمل فحص الثدي المجاني لكل السيدات فوق سن الأربعين عاماً بواسطة جهاز Mammogram ، وذلك من أجل التشخيص المبكر لسرطان الثدي ، فلماذا تدفع شركات التأمين نفقات هذا الفحص لمعامل الأشعة أو للمستشفيات . . السبب هو أنه مهما كانت التكاليف فإنها تظل أرخص من نفقات علاج المصابات بالسرطان عندما تُكْتَشَف الحالة متأخراً بعد أن يكون السرطان قد إنتشر من الثدي إلى الغدد الليمفاوية الموجودة تحت الإبط ، ثم في مرحلة متأخرة إالى الكبد والرئتين والعظام ، كذلك فإن المستشفيات في الولايات المتحدة الأمريكية تقوم بعمل فحص منظاري مجاني للقولون عند الرجال بعد سن الخمسين عاماً للإكتشاف المبكر لسرطان القولون . . فهذه الفحوص المبكرة تتكلف أقل بكثير من تكاليف علاج الحالات المتأخرة فضلاً عن حياة المريضة أو المريض التي قد تضيع بسبب الإهمال في التشخيص وعدم إجراء الفحوص الطبية اللازمة ، والإعتماد فقط على حدس الأطباء والفحص السريري المبدئي .
وأزعم أنني لم أخطئ في تشخيص أية حالة مرضية خلال سنين حياتي كطبيب بسبب أسلوبي هذا في التعامل مع أية حالة مرضية على أنها خطيرة حتى يثبت العكس . . ولا أقول أنني تمكنت من تشخيص كل الحالات المرضية التي صادفتها في حياتي ، فهناك حالات صعبة لم يصل العلم إلى تشخيصها بعد ، حتي ولو أجريت لها كل الفحوص الطبية ، ولا مانع هنا من إستشارة آساتذة أعلى مقاماً مني ، أو تحويل الحالة المرضية إلى طبيب آخر متخصص في هذه الحالة .
وقد يحسب البعض منا أن الأطباء لا يخطئون في أمريكا وأوروبا ، وأنهم آلهة الطب ، وقد يكون ذلك صحيحاً نظراً للتقدم الهائل في وسائل التشخيص ودقته ، إلا أن ذلك لا ينطبق على كل الأطباء هناك ، ولا على كل من يُسْمَح له بممارسة مهنة الطب . . فهناك أطباء في أوروبا نجحوا في إمتحانات الزمالة بفروعها المختلفة ، وهناك من حصلوا على درجات علمية مساوية للزمالة في دول أوروبية أخرى ، كذلك فإن الحاصلين على شهادة ممارسة مهنة الطب في أمريكا ECFMG يُسْمَح لهم بمزاولة مهنة الطب ، كذلك الحاصلين على شهادة البورد الأمريكي ، والزمالة الأمريكية يُسْمَح لهم أيضاً بممارسة الطب ، لكن ذلك لا يعني توافر الخبرة لديهم .
أقول ذلك تمهيداً للموضوع الرئيسي الذي قصدت أن يتضمنه هذا المقال ، وهو قصة مرض العالم المصري الكبير دكتور أحمد زويل ، ربما تكون قصة جديدة لدى الغالبية منكم ، ولم تسمعوا بها من قبل . . وقد أتيحت لي في دبي فرصة لقاء الأستاذ الدكتور محمد غنيم العالم المصري الكبير ، والصديق المقرب من دكتور زويل ، فسألته عما حدث ، وكان من المهم أن أستمع إلى طبيب وعالم ، يحكي بدقة قصة مرض الدكتور زويل منذ بدأت حتى وفاته ، وليس كالإعلاميين الذين تحدثوا وإختلفوا عن مرض الفنان الكبير محمود عبد العزيز فمنهم من ذكر أن الفنان لم يكن مصاباً بالسرطان كما شُخِّصَت حالته ، وأنها كانت تجربة إنسانية فريدة حين يشعر الإنسان أنه سيغادر هذه الحياة وينتقل إلى الآخرة ، وتتضاءل أمامه كل الأمور ، ثم يخبروه بعد ذلك أنه غير مصاب بالسرطان وأن التشخيص كان خاطئاً وبطل هذه الرواية هو الإعلامي الأستاذ وائل الأبراشي في العاشرة مساءاً ، وإعلامي آخر أكد أن حالة محمود عبد العزيز كانت سرطاناً وتم إكتشافه بالصدفة في باريس . . وبطل هذه الرواية هو الإعلامي الأستاذ عماد الدين أديب . . هذا هو الحال عندما يحكي غير المتخصصين حكايات طبية ، لكن الدكتور غنيم عندما تحدث معي عن حالة دكتور زويل – رحمه الله – كنت أعرف أن حديثه دقيقاً موثقاً ، وعندما طلبت إذنه لنشر حكايته لم يرفض لأنه أراد أن تكون هذه القصة درساً لكل الأطباء حتى لا يخطئون نفس الخطأ الذي حدث مع دكتور زويل . .
تبدأ القصة بآلام شديدة شعر بها الدكتور زويل في عظام جسده عامة ، وفي فقرات عموده الفقري خاصة ، فتوجه إلى الطبيب المعالج له في كاليفورنيا أمريكا ، فوصف له مسكناً للآلام دون آن يطلب أي فحص مختبري أو إشعاعي ، ولم يسترح دكتور زويل للعلاج ، وزادت آلامه ، وكان عليه الحضور إلى مصر من أجل مدينة زويل العلمية ، وفي الإتجاه إلى القاهرة كان يجب عليه التوقف في ألمانيا لتغيير الطائرة ، لكن نظراً لتعاظم الآلام التي كان يشعر بها ، توجه لطبيب في ألمانيا ، لست أدري في عيادته الخاصة أم في مستشفى ، وفعل الطبيب الألماني تماماً ما فعله الطبيب الأمريكي ، ووصف له مسكناً قوياً للآلام دون عمل أية فحوص طبية ، وعندما تناوله دكتور زويل شعر بآلام حادة في معدته ، فتوقف عن تناوله ، وبقي يعاني من هذه الآلام حتي وصل إلى القاهرة ، وسكن في فندق Four Seasons وهو يكاد يزحف على الأرض من فرط الآلام التي تنهش في عظامه ، وما كاد أن يصل إلى غرفته بالفندق في القاهرة ، حتى إتصل بصديقه العالم الكبير دكتور محمد غنيم في المنصورة وطلب منه الحضور لثقته المطلقة في شخصه ، فأسرع الدكتور غنيم من المنصورة منطلقاً إلى القاهرة وتوجه مباشرة إلى الفندق الذي يسكن به دكتور زويل ، وسمع منه شكواه ، وتألم كثيراً لآلام صديقه ، وأنا أعرف معنى ألم الصديق عند الدكتور غنيم ، فقد خبرته من قبل عندما كنت أتألم أنا أيضاً منذ ثلاث سنوات . . قرر الدكتور غنيم عمل فحوص شاملة لصديقه الدكتور زويل ، تبدأ بأشعة على الظهر ، وفحص فقرات العمود الفقري وباقي جسده بأشعة الرنين المغناطيسي MRI ، وصحبه إلى مركز Cairo Scan حيث كان العالم الكبير وأستاذ أساتذة الأشعة دكتور محمد عبد الوهاب في إنتظارهما ، وكانت المفاجأة أن الصور التي ظهرت لم تكن في حاجة إلى خبير عالمي لتشخيص حالة الدكتور زويل ، فكيف عجز بعض أطباء أمريكا وألمانيا عن تشخيص مرضه . . لقد ذهب إليهم عدة مرات بنفس الشكوى ، ولم يفكروا في عمل فحوص طبية متقدمة له مثل أشعة الرنين المغناطيسي MRI لتشخيص حالته ، وكانت الصور لحالة سرطان بالنخاع العظمي ، وهى حالة تعرف علمياً ب مييلوما Myeloma ، وكانت متأخرة جداً حيث إنتشر السرطان في بقية أعضاء جسده ، نتيجة الإهمال في أمريكا وألمانيا ، والذي أدى إلى عدم تشخيص حالته تشخيصاً دقيقاً ، وقد أظهرت الفحوص المعملية أيضاً تدهور وظائف الكبد والكلى
أصبح الدكتور غنيم في حيرة من أمره ، فالدكتور زويل يتألم آلاماً رهيبة ، فكيف يزيد الدكتور غنيم من آلامه ويخبره بحقيقة مرضه وبتضاؤل فرصه في الحياة ، لكن مع إلحاح الدكتور زويل لمعرفة الحقيقة ، قال له دكتور غنيم أن عليه أن يعود فوراً إلى أمريكا . . فإتصل دكتور زويل بزوجته المحترمة في كاليفورنيا ، وطلب من الدكتور غنيم أن يتحدث إليها ، فطلب منها عمل كل الإجراءات لإدخال زوجها إلى المستشفى فور عودته إلى كاليفورنيا ، وتمكنوا من إيجاد مرافق للسفر مع الدكتور زويل من القاهرة إلى أمريكا ومساعدته ، وأُدْخِلَ المستشفى فور وصوله ، وزُرِعَ له نخاع عظمي ، لكن الحالة كانت متدهورة ، ولم تفلح محاولات علاجه المتأخرة كثيراً ، وقد إضطر الأطباء الأمريكيون إلى علاجه بجرعات عالية من الكورتيزون لضمان عدم طرد الجسم للنخاع العظمي الذي زرع له ، وقد أدى ذلك إلى إنتفاخ في الوجه كان ملحوظاً جداً بسبب إحتجاز سوائل الجسم نتيجة العلاج بجرعات عالية من الكورتيزون ، كما تسبب الكورتيزون في ضعف مقاومة الجسم الطبيعية ، فكان صيداً سهلاً للبكتريا والفيروسات ، وبالفعل فقد توفى دكتور زويل بإلتهاب شديد في الرئتين Pneumonia نتيجة ضعف مقاومة الجسم بسبب الكورتيزون .
إنه درس أقدمه إلى كل الأطباء حتي يتعاملوا بطريقة منهجية في تشخيص الأمراض ، ولا أحسب إلا أن أساتذة الطب يتفقون معي في هذا ، بل إنهم يلحون على تلاميذهم بالإبتعاد عن الغرور وإتباع الأسلوب العلمي الممنهج في التشخيص . . أتذكر صديقاً عزيزاً وعالماً كبيراً أصيب بنفس المرض ، وكان حينئذ في فرنسا ، وتم تشخيص حالته تشخيصاً دقيقاً وسريعاً ، وزُرِعَ النخاعُ العظمي له قبل أن ينتشر السرطان في جسده ، والحمد لله فإنه يعيش حالياً معافىً وبصحةٍ جيدة . . أدعو الله أن يديم عليه الصحة والعافية .