السبت, 13 سبتمبر, 2025 , 12:05 ص
د. وفاء الجندي

الإسلام السياسي … فخ أم حقيقة؟!

بقلم د/وفاء الجندي

منذ منتصف القرن العشرين، بات مصطلح “الإسلام السياسي” يتردد في الأدبيات الفكرية والسياسية، حتى صار عنوانًا لمرحلة كاملة من إعادة تشكيل الوعي العربي والإسلامي. والإسلام في جوهره دين شامل، لا يقتصر على الشعائر بل ينظم حياة الإنسان فردًا ومجتمعًا. غير أن الغرب – بتوجيه من الحركة الصهيونية – سعى إلى تحويل هذا الدين من رسالة حضارية توحيدية إلى أداة صراع سياسي، عبر اصطناع حركات وكيانات ترفع راية الدين بينما تمثل في حقيقتها حصان طروادة لاختراق المجتمعات وإضعافها. لقد أدرك الغرب أن قوة الإسلام تكمن في وحدته الروحية والأخلاقية، وأن العرب رغم انقسامهم العرقي والجغرافي يشتركون في بوتقة دينية واحدة، ما يجعلهم – إذا توحدوا – أكبر تهديد لمشروع السيطرة الكونية. ومن هنا كان لا بد من إنتاج خطاب موازٍ باسم الدين، لكنه مفخخ بمفاهيم مغلوطة تؤدي إلى الفوضى، لا إلى النهضة. يخطئ من يظن أن الإسلام السياسي وليد الحرب الباردة فحسب؛ فالبذور تعود إلى ما قبل ذلك. • الثورة الفرنسية (1789) لم تكن مجرد حدث أوروبي داخلي، بل مثلت بوابة عبور لفكرة إعادة تشكيل العالم وفق معايير الحداثة الغربية التي تنزع القداسة عن الدين وتستبدله بسلطة الدولة/الأمة. هذا النموذج ألهم القوى الاستعمارية لاحقًا لإعادة هندسة مجتمعات الشرق على أساس تفكيك الرابط الديني الجامع. • الحرب العالمية الأولى (1914-1918) جاءت لتضع المشرق العربي تحت مشرط “سايكس–بيكو” (1916)، فتمزقت الدولة العثمانية، وأُدخلت المنطقة في مرحلة الكيانات القطرية الهشة. • ثم جاءت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) لتكرّس نظامًا دوليًا جديدًا، تُوّج ببروز الولايات المتحدة قطبًا أوحد يهيمن على الاقتصاد عبر الدولرة، وعلى السياسة عبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وعلى الوعي عبر الميديا والثقافة الاستهلاكية. هنا ظهر ما يمكن تسميته بـ التوظيف الغربي للإسلام. فقد دعمت أجهزة المخابرات الغربية جماعات رفعت شعار “الإسلام هو الحل”، لكنها لم تُمنح المساحة إلا بقدر ما تخدم استراتيجيات: 1. تفكيك العصبية القومية التي سادت في الخمسينيات والستينيات بقيادة عبد الناصر. 2. ضرب التوجهات الاشتراكية والتحررية التي هددت مصالح الغرب. 3. إبقاء المنطقة في دوامة صراع داخلي بين “علماني/إسلامي”، “سني/شيعي”، “جهادي/وطني”. المؤرخ المصري د. جمال حمدان أشار في كتابه شخصية مصر إلى أن الصراع في المنطقة ليس صراع أديان بقدر ما هو صراع على الموقع والموارد، وأن الدين استُخدم كأداة لتبرير الهيمنة. أما المفكر محمد حسنين هيكل فقد لفت إلى أن الإسلام السياسي ظهر دوماً كـ”ورقة” في يد القوى العظمى، يُلوّح بها كلما أرادت زعزعة استقرار عروش أو إعادة رسم خرائط. مع انهيار الاتحاد السوفيتي (1991)، دخل العالم في مرحلة القطب الأمريكي الأوحد، الذي فرض منظومة متكاملة من: • الاقتصاد الدولاري: حيث أصبح الدولار أداة السيطرة على الأسواق والبنوك المركزية. • التكنولوجيا والاتصالات: التي صارت أداة اختراق للثقافات والعقول. • التسليح العسكري: حيث احتكرت أمريكا سباق التسلح النوعي. • السياسة النقدية والمالية: التي تُدار من مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هذه الهيمنة لم تكن لتكتمل إلا عبر إضعاف الحضارة الأوروبية ذاتها، التي كانت تنافس أمريكا ثقافيًا وفكريًا. فتمّ “تغييب أوروبا” عبر ربطها اقتصاديًا وأمنيًا بالولايات المتحدة في إطار “الناتو” ومنظومة الدولار. إن ما نشهده اليوم من فوضى في العراق وسوريا وليبيا واليمن وفلسطين ليس سوى الفصول الأخيرة لمخطط رُسم منذ الحرب العالمية الثانية: • تفتيت الكيانات القومية إلى دويلات طائفية وعرقية. • تسويق الإسلام السياسي كبديل شكلي للدولة الوطنية. • جرّ العرب لصراعات داخلية تبعدهم عن قضيتهم المركزية (فلسطين). • إعادة تشكيل الخريطة الإقليمية بما يضمن أمن إسرائيل وتفوقها الاستراتيجي. كما يقول المفكر الراحل أنور عبد الملك: “الغرب لا يخشى الإسلام كدين، بل كحضارة قادرة على إنتاج نموذج بديل للهيمنة.” ومن هنا نفهم لماذا جرى تضخيم جماعات الإسلام السياسي، ثم شيطنتها في الوقت ذاته، لتبقى المنطقة رهينة معادلة الفوضى الدائمة. خاتمة// إن ما يُسمى بالإسلام السياسي لم يكن في جوهره يومًا مشروعًا نهضويًا ذاتيًا، بل صناعة خارجية جرى توجيهها بمهارة لإحداث الشرخ بين الإسلام كدين جامع، والإسلام كأداة سياسية. وما يحدث الآن في الشرق الأوسط ليس إلا “الفصل الأخير” من مسرحية كونية بدأت منذ الثورة الفرنسية، مرورًا بالحربين العالميتين، وصولاً إلى الإمبراطورية الأمريكية. ويبقى التحدي الأكبر أمام الأمة هو استعادة وعيها الحضاري، وفصل الدين الحق عن التوظيف السياسي المغرض، لتبني مشروعًا نهضويًا يعيد التوازن للعالم في مواجهة القطب الواحد.

اترك رد

%d