كتب – أحمد مبارك
حين يتحول «التسريب» إلى سيناريو خيالي: هل فعلاً أمريكا هتبني قاعدة عسكرية على تيران وصنافير؟! ولا مجرد فبركة إعلامية؟
في زمن الفوضى الإعلامية، والشير والتصديق دون تحقق، صار من السهل أن تُلقى التُهم وتُفبرك القصص وتُرسم السيناريوهات على مقاس أجندات مشبوهة.
وآخر تلك المحاولات كانت من أحد المواقع الاخبارية المغمورة الذي عاد ليفاجئنا بمزاعم تتعلق بأمن مصر القومي وتسيّد أمريكا للممرات البحرية، مدّعيًا أن السعودية عرضت على الولايات المتحدة إقامة قاعدة عسكرية في “تيران وصنافير”… ومصر؟ حسب القصة: تتفرج بصمت!
لكن في الحقيقة، المقال لا يقوم على وقائع بل على حبكة درامية سياسية، لا سند لها ولا مصدر، والهدف منها واضح: ضرب الثقة في الموقف المصري، وإيهام القارئ بأن القرار الوطني مرهون برغبات الخارج.
تعالوا نفكك هذا السيناريو بندًا بندًا:
–1 لا وجود لمصادر موثوقة خارج هذا الموقع
لايوجد أي مصدر لهذه المعلومة لا في موقع محلي أو دولي دعم مزاعم هذا الموقع غير المواقع الإخوانية المعروفة بالتضليل.
وكل ما بُني عليه المقال هو محادثة منشورة منذ أكثر من شهر على موقع “ذا أتلانتيك”، تتعلق بنقاش عام بين مسؤولين أمريكيين حول ضرورة تحميل المستفيدين من الملاحة في البحر الأحمر جزءًا من التكلفة.. لا ذكر فيها لا لتيران، ولا لصنافير، ولا لقناة السويس، ولا حتى لتفاصيل أمنية تتعلق بمصر.
الموقع قفز من هذه النقطة إلى سيناريو محبوك عن قاعدة عسكرية، بمصادر “مجهّلة”، وتحليلات تستند إلى العدم.
2– أين المنطق؟
المقال يدعي أن السعودية عرضت على أمريكا إقامة قاعدة على الجزر التي لا تزال تحت الإدارة المصرية حتى اللحظة.
فكيف تقدم دولة شيئًا لا تُديره فعليًا؟! ثم لماذا تفعل ذلك أصلًا وهي ليست طرفًا مباشرًا في صراع الملاحة في البحر الأحمر؟!
لا أمريكا طالبتها بمقابل حماية الملاحة ولا هي لها مصلحة مباشرة في وجود القواعد
3- مصر رفضت ما هو أخطر
في الشهور الماضية، جاء طلبان مباشران من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب:
استقبال مهجرين فلسطينيين في سيناء كحل مؤقت للأزمة الإنسانية في غزة.
إعفاء السفن الحربية الأمريكية من رسوم قناة السويس لأن أمريكا “تحمي الملاحة عن الجميع”.. وفي المرتين، كان الرد المصري حاسمًا: لا.
لا لاستقبال الفلسطينيين لأن سيناء خط أحمر.
لا للتنازل عن الرسوم لأن قناة السويس ممر سيادي.
فهل من المنطقي أن ترفض مصر هذه الطلبات الواضحة والمعلنة، ثم توافق سرًا على قاعدة عسكرية أمريكية بجوار حدودها؟!
- . الفبركة لها تاريخ
هذا الموقع الذي فبرك الخبر ليس موقعًا صحفيًا عابرًا، بل يحمل سجلًا طويلًا في التضليل السياسي، خاصة حين يتعلق الأمر بسيناء أو القضية الفلسطينية.
في أكتوبر 2023، نشر الموقع مقالًا زعم فيه أن مصر تستعد لاستقبال الفلسطينيين في سيناء… دون دليل.
في فبراير 2024، روّج لتقرير عن “منطقة مسوّرة” لاستيعاب لاجئين من غزة… ثم اتضح أنها منطقة لوجستية للمساعدات فقط.
كلها تقارير اعتمدت على “مصادر مطلعة” مجهولة، دون صور، دون وثائق، دون شهود.
نفس الأسلوب يتكرر اليوم: حبكة سياسية بلا سند، مصادر غامضة، وتحليل مدفوع بأجندة لا تخفى على أحد.
- . الخطر الأكبر: تطبيع التشكيك
المقال لا يهدف إلى طرح معلومة أو كشف حقيقة، بل إلى إحداث أثر: تشكيك في القرار المصري، تعميم لفكرة “الخضوع”، وخلق انطباع بأن الدولة تتنازل في الظل وتُدار من الخارج.
والخطر هنا، أن تنتقل هذه الأكاذيب من موقع هامشي إلى فضاء واسع بفضل إعادة نشرها من قبل بعض صنّاع المحتوى، الذين ينقلون دون تحقق، ويتعاملون مع القصة وكأنها كشف إعلامي… بينما هي مجرد إعادة تدوير لخطاب إعلامي إخواني يستهدف ضرب الثقة بين المواطن ومؤسسات بلده.
- . ما الهدف إذًا؟
تشويه الموقف المصري الذي أحرج واشنطن مرتين.
إشغال الرأي العام بقصص مفبركة بدلاً من صموده في وجه أمريكا
تمرير خطاب سياسي معادٍ لمصر بأدوات صحفية ناعمة.
- . رسالة مهمة لليوتيوبرز وصناع المحتوى السياسي
إذا كنت صانع محتوى وتتناول ملفات الأمن القومي، فعليك بقدر من التحقق، لأن الترويج لمحتوى غير موثوق يجعلك شريكًا في التضليل، حتى دون قصد.
لا تنقل من “مدى مصر” أو “مزيد” أو غيرها من الأبواق الإخوانية إلا بعد غربلة وتدقيق، فالإعلام المعادي قد يزرع السم في العسل، وأنت تصبح مجرد بوق، دون أن تدري.
الخلاصة بالأدلة والمنطق:
لا مصدر خارجي يدعم رواية مدى مصر… التسريب المزعوم موجود على العلن ولا يقول ما زعموه.
المحتوى لا يستقيم منطقيًا من حيث المصالح ، الجغرافيا ، والترتيبات العسكرية.
الموقف المصري ثابت: لا تنازل عن الأرض، ولا استجابة للضغوط، ولا قواعد أجنبية على أراضينا.
“مدى مصر” تكرر الأكاذيب القديمة بأسلوب جديد.. لكنها تظل أكاذيب.