بقلم: أحمد عبده طرابيك
كان شهر أغسطس عام 1991 مليئًا بأحداث ذات أهمية كبرى، من أبرزها انهيار الاتحاد السوفيتي الذي غاصت أركانه في أعماق الماضي، ولم يعد بإمكانها أن تبقى أبدًا. وحينها شدّ هذا الانهيار الكبير الانتباه في أنحاء العالم كله، إلى أن الاتحاد السوفيتي الذي جرت على أراضيه أحداث كثيرة أثرت وستؤثر في تطوير الإنسانية كلها جذريًا، ولآفاق طويلة الأمد، هكذا أصبح قرار كازاخستان بإغلاق ميدان تجارب الأسلحة النووية في منطقة سيميبالاتينسك واحدًا من أبرز تلك الأحداث التاريخية في ذلك الوقت. ولأن تلك المنطقة كانت وحدة تجريبية نووية شهيرة في العالم كله، فقد كانت هذه الخطوة الحازمة التي أقدمت عليها كازاخستان قد كتبت بداية حقيقية لتاريخ تفكيك النظام السوفيتي؛ ليتشكل على إثره نظام الدولة الكازاخستانية الجديدة.
مع تفكك الاتحاد السوفيتي أصبحت كازاخستان تمتلك رابع أقوي ترسانة نووية في العالم، بعد الولايات المتحدة، روسيا الاتحادية، أوكرانيا، والتي كانت تتكون من 104 من الصواريخ البالستية الاستراتيجية العابرة للقارات طراز إس إس 18، والتي كان يطلق عليها الغرب اسم “الشيطان”، إلي جانب 400 رأس نووية، 40 قاذفة قنابل استراتيجية من طراز توبوليوف ـ 95 إم إس مركب عليها 240 صاروخًا مجنحًا، حيث قد نشأت هذه الترسانة نتيجة سباق التسلح الطويل بين الكتلتين السياسيتين والعسكريتين في العالم بقيادة الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وكانت تفوق في قوتها المخزون النووي لدي كل من بريطانيا وفرنسا والصين مجتمعة.
لم تكن كازاخستان مجرد مكان لنشر الأسلحة النووية الاستراتيجية ووسائل توجيهها إلي أهدافها، فمع تفكك الاتحاد السوفيتي كان من نصيب كازاخستان مجمل البنية التحتية اللازمة لعمل دورة نووية عسكرية كاملة، من تجارب الأسلحة النووية وتحديثها وانتاجها، فقد كانت أراضي كازاخستان تضم مجمعًا كاملاً من ساحات التجارب النووية التي شهدت منذ عام 1949 نحو 468 تفجيرًا نوويًا، منها 91 تفجيرًا في الجو، 26 تفجيرًا فوق سطح الأرض، 8 تفجيرات علي المرتفعات، 343 تفجيرًا تحت الأرض، وقد تراوحت قوة التفجيرات ما بين بضعة كيلو أطنان، 1.5 ميجا طن، وفاقت في إجمالي قوتها القنبلة النووية التي أُلقيت علي مدينة هيروشيما اليابانية في عام 1945 بمقدار 2.5 ألف ضعف.
فى الثاني من ديسمبر 2009، وبمبادرة من جمهورية كازاخستان، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الرابعة والستين، يوم 29 أغسطس من كل عام يوماً دوليًا لمناهضة التجارب النووية، ففي مثل هذا اليوم من عام 1991، أعلنت كازاخستان عن إغلاق أكبر موقع للاختبارات النووية في سيميبالاتينسك الذي أصبح بداية تخليها عن أكبر ترسانات العالم للأسلحة النووية. وفي 29 أغسطس 2012، عقد برلمان جمهورية كازاخستان ووزارة الخارجية الكازاخية في أستانا بالتعاون مع المنظمة الدولية “برلمانيون من أجل نزع السلاح النووي وعدم انتشار الأسلحة النووية” مؤتمرًا دوليًا تحت عنوان “من حظر التجارب النووية إلى عالم خال من الأسلحة النووية”، وقد شارك هذا الحدث أكثر من 200 مشارك من أكثر من 75 دولة، كما شارك فيه أكثر من 70 برلماني من مختلف دول العالم إلى جانب 20 منظمة دولية بما في ذلك الأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
في الجلسة العامة للمؤتمر، تم تدشين مشروع “اتوم” ATOM، اختصارًا للكلمات “إلغاء الاختبارـ مهمتنا” Abolition Test Our Mission، والذي أصبح مبادرة جديدة لتحقيق عالم خال من الأسلحة النووية تهدف إلى الدعم العالمي للحظر النهائى على إجراء التجارب على الأسلحة النووية والعمل على القضاء عليها بالكامل. وتتمثل مهمة مشروع “اتوم” في تعزيز بناء عالم خال من الأسلحة النووية، حيث يهدف المشروع إلى زيادة وعي الحكومات والشركات في جميع أنحاء العالم حول العواقب الخطيرة للتجارب النووية واستمرار امتلاك الترسانات النووية، والتى تشكل تهديدًا للجنس البشري فى حالة استمرارها بحوزتهم، حيث يسعي المشروع إلي توحيد الدعم العالمي لإلغاء نهائي لتجارب الأسلحة النووية والقضاء التام على الأسلحة النووية من قبل جميع الدول. ويهدف المشروع إلي جذب انتباه الشعوب في جميع أنحاء العالم لمحنة ما يقرب من 15 مليون نسمة كانوا ضحايا التعرض للإشعاع في دول مثل كازاخستان وجزر مارشال واليابان والجزائر.
خلال أربعين عامًا من التجارب النووية السوفيتية في سيميبالاتينسك تعرضت كازاخستان لما يقرب من نصف التجارب النووية التى شهدها العالم، فقد كانت هذه الإشعاعات تعمل على تسميم السهول والأنهار والبحيرات وتقتل ببطء الحياة في المنطقة، وقد دمر هذا الشر النووي حياة وصحة أكثر من مليون ونصف المليون شخص من شعب كازاخستان، ومازالت عواقب هذه التجارب النووية ماثلة حتى اليوم.
تلتزم كازاخستان بسياسة الشفافية بشأن الطاقة النووية وتسعى إلى تأسيس نظام مفتوح للسلامة النووية وتعتبر من الدول القيادية المعترف بها فى العالم في مجال عدم الانتشار النووي، ولذلك فليس من الغريب أن تختار الوكالة الدولية للطاقة الذرية جمهورية كازخستان مقرًا للبنك الدولي لليورانيوم منخفض التخصيب، حيث يتم إنشاء مخزن لليورانيوم منخفض التخصيب، هو المادة الخام لإنتاج وقود لمحطات الطاقة النووية، ويكون من الأهداف الرئيسية لهذا لمشروع تأييد تطوير الطاقة الذرية العالمية وتعزيز نظام عدم الانتشار النووي. ففى عام 2006 عرضت الوكالة الدولية للطاقة الذرية فكرة إنشاء البنك الدولى لليورانيوم منخفض التخصيب للدول التى تقوم بتطوير الطاقة النووية ولكن ليس لديها منشآت خاصة بها لتخصيب اليورانيوم، وقد أيدت غالبية الدول الأعضاء في الوكالة الدولية هذا الاقتراح، حيث لا تسمح الوكالة بشراء اليورانيوم منخفض التخصيب من هذا البنك إلا للدول الأعضاء التى قامت بابرام الاتفاقات معها والتى تلتزم بالضمانات الشاملة وتتبع قواعدها، وبعد ثلاث أعوام من إعلان الأمم المتحدة 29 أغسطس يومًا دوليًا لمناهضة التجارب النووية تم فى 27 أغسطس 2015، توقيع حزمة من الاتفاقيات بين كازاخستان والوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن إنشاء البنك الدولى لليورانيوم منخفض التخصيب في أستانا، ويُعد اختيار كازاخستان مقراً لهذا البنك دليلاً على اعتراف المجتمع الدولي بخبرة كازاخستان الكبيرة في مجال الرقابة على الصادرات وتخزين ونقل المواد النووية.
نالت كازاخستان بشكل كبير تقدير المجتمع الدولي، واحترام اختيارها بأن تكون دولة دون أسلحة نووية من خلال قرار إغلاق ميدان تجارب أسلحة سيميبالاتينسك، واليوم أصبحت كازاخستان علي الثقة التامة بالحقيقية التاريخية الكامنة في القرار الذي اتخذته من أجل حياة واقعية ومستقبل آمن للحضارة الإنسانية، وهو مثال واضح لجعل التهديد النووي في الخلف وحرص شعب كازاخستان على السلام ونزع السلاح، والرفض الطوعي لامتلاك السلاح النووي، وإغلاق ميدان تجارب الأسلحة تماشيًا مع الجهود العالمية بشأن نزع السلاح النووي وعدم انتشاره.