كتب – خالد عبد الحميد
أخي صاحب الجلالة الملك سلمان بن عبد العزيز خادم الحرمين الشريفين وعاهل المملكة العربية،
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
أتقدم بالتحية والتقدير للدول المشاركة في قمة اليوم والتي تأتي في لحظة استثنائية من تاريخ العالم والمنطقة العربية لتحمل دلالة سياسية واضحة بتجديد عزمنا على تطوير المشاركة بين الدول العربية والولايات المتحدة الأمريكية سواء على الصعيد الثنائي أو في الإطار الاقليمي الأوسع، وبما يمكننا سوياً من الانطلاق نحو آفاق أرحب من التعاون على نحو يلبي تطلعات ومصالح شعوبنا، استناداً إلى علاقات وروابط قوية وممتدة قائمة على إعلاء مبادئ راسخة، لا ينبغي أن نحيد عنها، لتحقيق المنفعة المتبادلة، وصون أمن واستقرار المنطقة بأكملها.
لقد تتابعت الأزمات العالمية والإقليمية المتفاقمة وازدادت حدتها، كجائحة كورونا، وتغير المناخ، وأمن الغذاء، وتفشي النزاعات المسلحة دولياً وإقليمياً، والتي ألقت بظلالها على البشرية بأكملها، ومن بينها منطقتنا العربية التي تعاني من تحديات سياسية وتنموية وأمنية جسيمة بما فيها مخاطر انتشار الإرهاب، على نحو يطال استقرار شعوبنا، ويهدد كذلك حقوق الأجيال القادمة، وباتت أمتنا تتساءل بشكل مشروع عما لدينا من أدوات وما نقوم به من إجراءات من أجل التصدي لهذه التحديات، وعن مصير الأزمات الممتدة التي تعيشها منطقتنا العربية منذ أكثر من عقد، وآفاق تسوياتها.
ويتعين في هذا السياق أن تكون لدولنا ومنطقتنا إسهاماتها الملموسة في صياغة حلول دائمة غیر مرحلية لتلك التحديات المعاصرة على أسس علمية وواقعية، وهو ما نعمل في مصر على تحقيقه انطلاقاً من إيماننا بأن للجميع هوية واحدة وهي الانتماء للإنسانية، فلم يعد مقبولاً أن يكون من بين أبناء أمتنا العربية، صاحبة التاريخ المجيد والإسهام الحضاري الثري والامكانات والموارد البشرية الهائلة، من هو لاجئ أو نازح أو متضرر من ويلات الحروب والكوارث، أو فاقد للأمل في غد أفضل.
لقد حان الوقت لكي تتضافر جهودنا المشتركة لتضع نهاية لجميع الصراعات المزمنة والحروب الأهلية طويلة الأمد التي أرهقت شعوب المنطقة، واستنفدت مواردها وثرواتها في غير محلها، وأتاحت المجال لبعض القوى للتدخل في الشئون الداخلية للدول العربية، والاعتداء العسكري غير المشروع على أراضيها، والعبث بمقدراتها ومصير أجيالها، من خلال استدعاء نزاعات عصور ما قبل الدولة الحديثة من عداءات طائفية وإثنية وعرقية وقبلية، لا غالب فيها ولا مغلوب، وبما أدى لانهيار أسس الدولة الوطنية الحديثة وسمح ببروز ظاهرة الإرهاب ونشر فكره الظلامي والمتطرف.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
إن لمصر تجارب تاريخية عديدة في المنطقة، وكانت دوماً خلالها رائدة وسباقة في الانفتاح على مختلف الشعوب والثقافات وانتهاج مسار السلام، فكان هو خيارها الاستراتيجي الذي صنعته، وفرضته، وحفظته، وحملت لواء نشر ثقافته، إيماناً منها بقوة المنطق لا منطق القوة، وبأن العالم يتسع للجميع، وهو سلام الأقوياء القائم على الحق، والعدل، والتوازن، واحترام حقوق الآخر، وقبوله.
واسمحوا لي من هذا المنبر، وبمناسبة قمتنا اليوم، أن أطرح عليكم مقاربة شاملة تتضمن خمسة محاور للتحرك في القضايا ذات الأولوية خلال المرحلة القادمة لخدمة أهدافنا المنشودة صوب منطقة أكثر استقراراً وازدهاراً:
أولاً: لعلكم تتفقون معي أن الانطلاق نحو المستقبل يتوقف على كيفية التعامل مع أزمات الماضي الممتدة، ومن ثم فإن جهودنا المشتركة لحل أزمات المنطقة، سواء تلك التي حلت خلال العقد المنصرم، أو تلك المستمرة ما قبل ذلك، لا يمكن أن يكتب لها النجاح إلا من خلال التوصل إلى تسوية عادلة وشاملة ونهائية لقضية العرب الأولى، وهي القضية الفلسطينية، على أساس حل الدولتين المستند إلى مرجعيات الشرعية الدولية ذات الصلة، وبما يكفل إنشاء دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو لعام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، تضمن للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، وتعيش في أمن وسلام جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل، على نحو يحقق أمن الشعبين ويوفر واقعاً جديداً لشعوب المنطقة يمكن قبوله والتعايش معه، ويقطع الطريق أمام السياسات الإقصائية، ويعضد من قيم العيش المشترك والسلام وما تفتحه من آفاق وتجسده من آمال. ومن هنا، فلابد من تكثيف جهودنا المشتركة، ليس فقط لإحياء مسار عملية السلام، بل لنصل به هذه المرة إلى حل نهائي لا رجعة فيه، ليكون بذلك قوة الدفع التي تستند عليها مساعي السلام في المنطقة.
ثانياً: إن بناء المجتمعات من الداخل على أسس الديمقراطية والمواطنة والمساواة واحترام حقوق الإنسان ونبذ الأيديولوجيات الطائفية والمتطرفة وإعلاء مفهوم المصلحة الوطنية، هو الضامن لاستدامة الاستقرار بمفهومه الشامل، والحفاظ على مقدرات الشعوب، والحيلولة دون السطو عليها أو سوء توظيفها. ويتطلب تحقيق ذلك تعزيز دور الدولة الوطنية ذات الهوية الجامعة ودعم ركائز مؤسساتها الدستورية، وتطوير ما لديها من قدرات وكوادر وإمكانات ذاتية، لتضطلع بمهامها في إرساء دعائم الحكم الرشيد، وتحقيق الأمن، وإنفاذ القانون، ومواجهة القوى الخارجة عنه، وتوفير المناخ الداعم للحقوق والحريات الأساسية، وتمكين المرأة والشباب، وتدعيم دور المجتمع المدني كشريك في عملية التنمية وكذلك دور المؤسسات والقيادات الدينية لنشر ثقافة الاعتدال والتسامح بما يضمن التمتع بالحق في حرية الدين والمعتقد، فضلاً عن تكريس مسيرة الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي ودفع عجلة الاستثمار وتوفير فرص العمل وصولاً إلى التنمية المستدامة، تلبيةً لتطلعات شعوبنا نحو مستقبل أفضل يشاركون في بنائه ويتمتعون بثمار إنجازاته دون تمييز.
ثالثاً: يتعلق هذا المحور بالأمن القومي العربي، والذي أؤكد على أنه كل لا يتجزأ، وأن ما يتوافر لدى الدول العربية من قدرات ذاتية بالتعاون مع شركائها، كفيل بتوفير الإطار المناسب للتصدي لأي مخاطر تحيق بعالمنا العربي. وأشدد في هذا الصدد على أن مبادئ احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شئونها الداخلية، والإخاء، والمساواة، هي التي تحكم العلاقات العربية البينية، وهي ذاتها التي ينص عليها روح ميثاق الأمم المتحدة ومقاصده، ويتعين كذلك أن تكون هي ذاتها الحاكمة لعلاقات الدول العربية مع دول جوارها الإقليمي، وعلى الصعيد الدولي. هذا، ولا يفوتنا في إطار تناول مفهوم الأمن الإقليمي المتكامل، معاودة التأكيد على ضرورة اتخاذ خطوات عملية تفضي لنتائج ملموسة باتجاه إنشاء المنطقة الخالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، مع تعزيز دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية في هذا الصدد، والحفاظ على منظومة عدم الانتشار، وبما يمثل حجر أساس مهم لمنظومة متكاملة للأمن الاقليمي في المنطقة.
رابعاً: يظل الإرهاب تحدياً رئيساً عانت منه الدول العربية على مدار عدة عقود، ولذا فإننا نجدد التزامنا بمكافحة الإرهاب والفكر المتطرف بكافة أشكاله وصوره بهدف القضاء على جميع تنظيماته والميليشيات المسلحة المنتشرة في عدة بقاع من عالمنا العربي، والتي تحظى برعاية بعض القوى الخارجية لخدمة أجندتها الهدامة، وترفع السلاح لتحقيق مكاسب سياسية ومادية، وتعيق تطبيق التسويات والمصالحات الوطنية، وتحول دون إنفاذ إرادة الشعوب في بعض الأقطار، بل وتطورت قدراتها لتنفذ عمليات عابرة للحدود. وأشدد في هذا السياق على أنه لا مكان لمفهوم الميليشيات والمرتزقة وعصابات السلاح في المنطقة، وأن على داعميها ممن وفروا لهم المأوى والمال والسلاح والتدريب وسمحوا بنقل العناصر الإرهابية من موقع إلى آخر، أن يراجعوا حساباتهم وتقديراتهم الخاطئة، وأن يدركوا بشكل لا لبس فيه أنه لا تهاون في حماية أمننا القومي وما يرتبط به من خطوط حمراء، وأننا سنحمي أمننا ومصالحنا وحقوقنا بكل الوسائل.
خامساً: يرتبط هذا المحور بضرورة تعزيز التعاون والتضامن الدوليين لرفع قدرات دول المنطقة في التصدي للأزمات العالمية الكبرى والناشئة، كقضايا نقص إمدادات الغذاء، والاضطرابات في أسواق الطاقة، والأمن المائي، وتغير المناخ، بهدف احتواء تبعات هذه الأزمات والتعافي من آثارها، وزيادة الاستثمارات في تطوير البنية التحتية في مختلف المجالات، وبما يسهم في توطين الصناعات المختلفة، ونقل التكنولوجيا والمعرفة، ووفرة السلع.
وفي هذا السياق، تدعم مصر كل جهد من شأنه تطوير التعاون وتنويع الشراكات لمواجهة أزمتي الغذاء والطاقة الراهنتين، مع التأكيد على أن التعامل مع أزمة الغذاء يتطلب مراعاة أبعادها المتعددة على المديين القصير والبعيد لوضع آليات فعالة للاستجابة السريعة لاحتياجات الدول المتضررة من خلال حزم عاجلة للدعم، فضلاً عن تطوير آليات الإنتاج الزراعي المستدام وتخزين الحبوب وخفض الفاقد، وذلك بالتعاون مع الشركاء ومؤسسات التمويل الدولية، وهو الأمر نفسه الذي ينسحب على التعامل مع أزمة الطاقة التي تتطلب من جانبنا تعاوناً فعالاً لضمان استقرار أسواق الطاقة العالمية، ولعل ما حققه منتدى غاز شرق المتوسط من نجاحات في السنوات الماضية يمثل ترجمة عملية لإرادتنا السياسية في التعاون مع شركاننا، وتجسيداً لأحد أبرز الاسهامات في كيفية إدارة الثروات والتوظيف الأمثل للموارد الحالية والمستقبلية صوناً لمصادر الطاقة.
أما فيما يتعلق بالأمن المائي، فمن الأهمية تجديد الالتزام بقواعد القانون الدولي الخاصة بالأنهار الدولية بما يتيح لجميع الشعوب الاستفادة من هذه الموارد الطبيعية بشكل عادل، وضرورة صون متطلبات الأمن المائي لدول المنطقة والحيلولة دون السماح لدول منابع الأنهار، التي تمثل شرايين الحياة للشعوب كلها، بالافتئات على حقوق دول المصب.
واتصالاً بتغير المناخ، فيتعين علينا استمرار العمل الجماعي المشترك في الأطر الدولية متعددة الأطراف ذات الصلة بهذه القضية الهامة، وفي مقدمتها اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ واتفاق باريس، وذلك لضمان تحقيق الأهداف التي اتفقنا عليها وفقاً للقواعد والمبادئ التي ارتضيناها، ولا يفوتني في هذا الإطار التأكيد على أن منطقتينا العربية والإفريقية تعدان إحدى أكثر مناطق العالم تضرراً من الآثار السلبية لتغير المناخ، وما يترتب على ذلك من انعكاسات على الأمن الغذائي، وأمن الطاقة والمياه، والسلم المجتمعي والاستقرار السياسي، ومن ثم يتعين علينا التوافق حول رؤية شاملة لدعم الدول العربية والإفريقية، وتمكينها من الوفاء بالتزاماتها الدولية ذات الصلة، ورفع قدرتها على التكيف مع الآثار السلبية لتغير المناخ، بحيث تساهم تلك الرؤية في معالجة أزمة السيولة المالية وتكثيف تمويل المناخ الموجه إلى هذه الدول، فضلاً عن دعم وتعزيز الاستثمارات في الطاقة المتجددة. وفي هذا الصدد، فإنني أتطلع لاستقبالكم بمدينة شرم الشيخ في القمة العالمية للمناخ COP 27 في نوفمبر ۲۰۲۲ لنواصل معاً التأكيد على التزامنا الراسخ تجاه جهود مواجهة تغير المناخ، ولكي نحول هذا التحدي إلى فرصة حقيقية للتنمية والانتقال إلى أنماط اقتصادية خضراء أكثر استدامة لصالح شعوب الأرض جميعاً.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
لقد أردت اليوم أن أشارككم المحاور الخمسة التي تقوم عليها رؤية مصر لمواجهة التحديات الراهنة من أجل وضع منطقتنا على طريق الاستقرار الشامل والمستدام، ولكي نبدأ معاً فصلاً جديداً من الشراكة الاستراتيجية بين دولنا وشعوبنا، والتي تقوم على أسس الثقة والدعم المتبادلين، وإعلاء المصالح المشتركة، وتقاسم الأعباء والمسئوليات، والتضامن، مع الأخذ في الاعتبار ظروف وخصوصية كل مجتمع وتجاربه وأعرافه وعاداته وتقاليده وما يواجهه من تحديات، وبما يتواكب مع مفهوم تكامل الحضارات في زمننا المعاصر.
وختاماً، لا يسعني سوى أن أتقدم بالشكر للمملكة العربية السعودية الشقيقة على حسن الاستقبال وكرم الضيافة، وأود أن أبعث رسالة لشعوبنا الشقيقة والصديقة وشركائنا بالولايات المتحدة الأمريكية، فأقول لهم، ستجدون دائماً في مصر التي عرفتموها وشهدت الحضارة الإنسانية أولى لبناتها على ضفاف نيلها الخالد، سنداً وشريكاً لكم، ويداً تمد العون من أجل حفظ وتعظيم مصالحنا المشتركة، ولنسير معاً بخطى ثابتة على طريق المستقبل في البناء والتنمية والتقدم، نضيئه بأملنا وعزمنا الذي لا يلين، واعتماداً على أنفسنا ورؤيتنا المشتركة لكيفية معالجة الأزمات على نحو يحترم إرادة الشعوب وخياراتها وحقها في تقرير مصيرها، واثقين في نهجنا، وفيما تتيحه شراكتنا من قدرات وما لدينا من خبرات تمكننا من اجتياز الصعاب مهما بلغت، ولنرسم غداً أفضل لنا جميعاً وللأجيال القادمة.